هجرات الموت، فقدان الأرواح في البحار، سهول السودان المنبسطة والممتدة، ضعف الإمكانيات، العبودية الحديثة.. مصطلحات ترتفع إلى السطح، كلما ذكرت مبررات وقصص الإتجار بالبشر، وهي القضية التي اخذت بُعداً سياسياً صارخاً في العديد من الدول، حتى أن البعض طالب بإعادة النظر في مقولة المفكر والسياسي والمؤرخ الفرنسي ألكسيس دي توكفيل: إنّ إلغاء تجارة الرقيق هو قرار لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم، ولن تجد في تاريخ البشرية أعظم من هذا الإنجاز». في السودان ترتفع وتنخفض حسب الأحداث. الأسبوع الماضي كشفت سفارة السودان بالقاهرة عن وجود شبكات في الخرطوم تمارس الإتجار بالبشر مرتبطة بشبكان أخرى في مصر وليبيا، وأعلنت عن رصد مكتب بالخرطوم يمارس الإتجار والاحتيال على الفتيات وإقناعهن بوجود وظائف في الخارج بمرتبات مجزية، وأشارت لوقوع ثلاث فتيات في شباك عمليات الاحتيال التي يمارسها المكتب. وبحسب المنظمة الدولية لمناهضة العبودية فإنّ الإتجار بالبشر، أو كما تسميه أدبيات السياسة بالعبودية المعاصرة أو رقّ القرن الحادي والعشرين، يتضمن نقل الأشخاص بواسطة العنف أو الخداع أو الإكراه بغرض العمل القسري أو الممارسات التي تشبه العبودية، وبالرغم من قِدم نشاط الإتجار بالبشر إلا أنّه تزايد في العصر الحالي بشكل مريع نسبة للعائد المادي السريع بشكل احتل، وفق الأممالمتحدة، المركز الثالث من مصادر دخل الجريمة المنظمة بعد الإتجار بالمخدرات والأسلحة. وتغذي الإتجار بالبشر عوامل متشابكة ومتداخلة منها الفقر والحرمان وتدهور الحالة الاقتصادية والعطالة، والتهميش والتمييز، وعدم الاستقرار السياسي، وضعف القوانين التي تضع عقوبات غير رادعة على ممارسي التجارة، مما يخلق مناخاً لممارسة الجريمة المنظمة. وتواجه سبل مكافحة جرائم الإتجار بالبشر ندرة المعلومات والإحصائيات الدقيقة عن حجم المشكلة وضحاياها والشبكات التي تديرها جراء سياج السرية الذي تتم فيه هكذا تجارة.والسودان بحكم موقعه الجغرافي يعد معبراً وهدفاً للهجرة غير الشرعية خاصة من الدول الأفريقية، كما يُعتبر مصدّراً للهجرات غير الشرعية للمواطنين السودانيين إلى أوروبا وإسرائيل ودول الخليج، ولعل أسباب الهجرة تتسع في حالة السودان لتشمل بالإضافة إلى سوء الأوضاع الاقتصادية والأمنية وتأثير الحروب والنزاعات المسلحة على المواطنين تفشي البطالة بين الشباب وتفاقم حالات الفساد في الحكم والإدارة، مما يحوّل الهجرة غير المنظمة وتهريب البشر إلى نشاط الإتجار ويساهم كذلك في تنامي الظاهرة. وهناك الكثير من الأصوات التي علت مؤخراً منتقدة تحميل أصابع أجنبية تفشي الظاهرة ورواجها، لكن لا يعني أن الأيادي الأجنبية بعيدة عن ذلك، فقد أفصح مسؤول في ولاية كسلا قبل عامين عن وجود شبكات أجنبية تعمل بمعاونة سودانيين على تهريب البشر إلى إسرائيل عبر منطقة شلاتين بولاية البحر الأحمر، كما ضبطت سلطات وادي حلفا بالولاية الشمالية مجموعات من الأثيوبيين والأريتريين تسللوا إلى داخل البلاد بمساعدة هذه الشبكات إيذاناً بترحيلهم إلى إسرائيل وأوروبا. وفي أغسطس من عام 2011 ألقت السلطات المختصة بولاية البحر الأحمر القبض على المتهم الرئيسي في قضية تهريب البشر، التي راح ضحيتها عدد من الأشخاص غرقاً في البحر الأحمرجنوب مدينة سواكن الساحلية، هذا غير إحباط عدد من المحاولات، وخلاف حوادث الاحتراق والغرق التي راح ضحيتها مئات الأرواح من السودانيين وغيرهم من لاجئي الجوار الأفريقي. تنتهك التجارة بالبشر كل القيم الإنسانية والدينية، وتناقض العديد من المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الطفل والمرأة وحقوق العمال المهاجرين وعمالة الأطفال، وتنافي كذلك بنود ميثاق الأممالمتحدة ضد الجريمة الدولية المنظمة لمنع وقمع ومعاقبة المتاجرين بالبشر، خاصة النساء والأطفال، الصادر في ديسمبر 2003. وتمسك مدير الإدارة العامة للجوازات والهجرة السودانية اللواء أحمد عطا المنان باهمية ضبط الهجرات غير الشرعية، نسبة لأن السودان يعد محوراً أساسياً للهجرات ودولة عبور. لافتاً إلى حاجة البلاد لمد يد العون من المجتمع الدولي وقال عطا المنان ل«آخر لحظة» إن تعريف الإتجار بالبشر مطاط وبه كثير من التداخلات، يشمل الرق والتهريب وتجارة الأعضاء «الصورة بهذا التعريف السيئ حتى الآن غير موجودة بالسودان»، مشيراً إلى أن البلاد بحدودها الواسعة من الصعب فيها ضبط الحدود، وأضاف أنه رغم الجهود المبذولة يحدث التسلل عبر عصابات تهريب ملمة بالثغرات وتتخذ السودان معبراً لتنفيذ جريمة التهريب، مشيراً إلى حاجة البلاد إلى كثير من الإمكانات التي تساعد على تحدي هذه الظاهرة بتوفير آليات لمراقبة وضبط الحدود وتوقيف عصابات التهريب وتقوية آليات تنظيم الوجود الاجنبي والعمل على منع الجريمة قبل وقوعها. وحسب قول عطا المنان فان المجتمع الدولي يولي اهتماما كبيراً لهذه القضية حيث كون آلية من «السودان، أريتريا، أثيوبيا، مصر وجنوب السودان» إضافة لأربعة دول من الإتحاد الأوروبي لمتابعة الإمكانيات التي تُمنح للدول.