قصدت بهذه التأملات أن أثير بعض ما يستوجب التأمل، ونحن في الأيام الأخيرة من هذا الشهر العظيم لعلنا ندرك بعضاً من الرحمة والمغفرة والعتق من النار.. الشهر الذي تحول عند بعض فضائياتنا إلى مهرجان للغناء واستعراض الأزياء والإعلانات والخروج بأكبر قدر من الأرباح المادية، كما إن الفضائيات المصرية على طريقتها اختطفت كل الروحانيات وحولتها إلى مسلسلات تثير الغرائز والنزعات الدنيوية الوضيعة.. نسأل الله لنا ولهم الهداية فما نحن بمعصومين. تذكرت قصة حدثت لي عندما كنت رئيساً لقسم الأحياء بكلية التربية بالطائف بالمملكة العربية السعودية في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. فعندما كنت أقف مع طلبتي بالقرب من مبنى العمادة، لاحظت على الحشائش نحلة متعثرة تحاول أن تطير فلا تقدر.. ولفتُ نظر طلابي الذين كنت قد درستهم سلوك النحل فقلت لهم: - ترى ما الذي يجعل هذه النحلة متعثرة للحد الذي يجعلها لا تستطيع أن تطير؟ توصل بعض الطلاب للإجابة الصحيحة، وهي أن النحلة ربما تكون قد ضلت طريقها فنفد الوقود (العسل) الذي كانت تحمله لكي تصل إلى وجهتها. - ولماذا تضل طريقها ؟ - لأنها قرأت المعلومة التي وصلتها من الكشاف خطأً .. فلم تعرف وجهة الرحيق ولا المسافة إلى الأزهار التي تحمل الرحيق . لقد وضع الله سبحانه وتعالى في النحل عن طريق الوحي الرباني برامج محددة تنفذها أمة النحل: «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)» سورة النحل الأيتان 68-69. وهي إذ تسلك السبل تتلقى إشارات معينة من أفراد النحل الكشاف الذي يكون قد عثر على أزهار تحمل رحيقاً، وحدد لهم الاتجاه والمسافة فإذا قرأت نحلة الأتجاه أو المسافة خطأً فإنها لن تحمل معها ما يكفيها لرحلة الذهاب، ولهذا تتعطل مثلما تتعطل السيارة التي ينفد وقودها. فقلت للطلاب: - ما الذي سنفعله من أجلها؟ أجاب أحد الطلبة وكان يحمل قارورة عصير في يده : سأسكب لها نقطة من العصير في فمها. وفي هذه اللحظة كانت هناك نحلة جاءت تطير حول النحلة المتعثرة وتلف حولها في خطوط دائرية، إلى أن اقتربت منها ثم رفعت رأسها بيديها الأماميتين ثم أفرغت نقطة من سائل أصفر في فمها فأفاقت و(شدت حيلها) فحملتها هذه على ظهرها وطارت بها بعيداً نحو مكان ما في مبنى العمادة. قلت للطلاب: هل سمعتم صوت استغاثة صادر من النحلة المتعثرة؟ كلهم أجابوا بالنفي.. قلت إذا كيف سمعت النحلة المغيثة أو كيف عرفت أن هناك نحلة متعثرة؟ أجاب أحد الطلاب: لابد أنها كانت ترسل أصواتاً فوق سمعية لا تسمعها الأذن البشرية.. فوجدت تفسيره أقرب للصواب، ولو كانت لنا أجهزة في ذلك الوقت نسجل بها تلك الأصوات فوق السمعية لتأكدنا من تلك الفرضية. على أن تلك الآية: «وأوحى ربك إلى النحل ... » أراحتني كثيراً.. لقد كنت مشغولاً طيلة دراستي لسلوك الحيوان بسؤال يتردد في خاطري كثيراً وأنا اتأمل بعض مظاهر السلوك : كيف يسلك ذلك الحيوان سلوكاً معقداً لا يحيد عنه هو ونوعه.. كيف يبني الطائر النساج (عش أم دلدلو) بتلك البراعة وهو لا يملك غير منقار ورجلين يتعلق بهما على فرع الشجرة ؟ وإذا كان الله سبحانه وتعالى يوحي لنبيه صلى الله عليه وسلم وحياً يبلغه لأمته.. فإن الله لا يوحي لنحلة واحدة لتبلغ ذلك لأبناء جنسها.. ولكنه وحي يغرسه الله في جينات الكائن الحي، فينتقل إلى بقية أفراد الأمة الحيوانية.. إذاً فهذا نوع من الوحي الجيني الذي يمكن أن يفسر لنا كل فعل غريب يقوم به الحيوان.. وإذا أوحى الله إلى النحل أن ينفذ عدة برامج فإنه أيضاً يوحي إلى كائناته الأخرى كل البرامج التي تسير حياتها وتضمن لها البقاء والاستمرارية.. وهذا جعل فهمي لأعقد أنواع السلوك عند الحيوان أمراً سهلا.ً. فتأمل حشرة صغيرة تخرج من البيضة في المساء ثم تتجمع حول مصابيح الشوارع لتتلقح ثم تهبط إلى الأرض لتبيض وتنتهي مهمتها وتموت.. كل هذه العملية تستغرق ما لا يزيد على ثماني ساعات.. فيها طفولة وشباب وتزاوج وشيخوخة وموت.. ولكنها بمثل هذه الاستراتيجية الربانية ظلت موجودة ل300 مليون سنة دون أن ينقرض نوعها.. وكل ذلك يحكمه ويوجهه وحي جيني من لدن عليم خبير.