٭ مع صباح يوم 23 يوليو 1971، كانت مايو قد دحرت ما أسمته ب «الغدر الشيوعي».. وعبارة «الغدر» لا تخلو من ذيول عتاب بين رفاقٍ تفرّقت بهم السُبُل..! ٭ كان إنقلاب هاشم العطا، هو أكثر انقلابات السودان بياضاً،إذ لم يسفك مُنفذوه قطرة دم واحدة، أما من الطرف الآخر (حكومة نميري) فقد كان ذلك الانقلاب هو الأكثر دموية في ساعات «التصفية».. وبالرغم من نسبة هذا الإنقلاب إلى الشيوعيين، إلا أن الانقلاب بدا يتيماً دون جهة تتبنّاه كاملاً ، دون إستدراك أو تعريض، ببعض الذي حدث، فحتى هذه الساعة، لم يصدر تقييم شامل لذلك الحدث الدّامي، وإنما هي شذرات من أقاويل مناسبات، تدلي بها جهات مُعادية، أو قيادات حزبية، أو أُخرى غادرت صفوف الحزب. ٭ كان انقلاب 19 يوليو حدثاً جريئاً تم تنفيذه بالنهار تحت ضوء الشمس، بيد أن القائمين عليه لم يحسنوا إدارته فارتبكوا عندما وقعوا أسارى» للعِتاب»، و لوشائجهم مع أولئك الرفاق الذين انقلبوا عليهم..تصدعت الحركة عندما غرق قادتها في التفاصيل الصغيرة وأنهكوا أنفسهم في اجتماعاتٍ كان يجب أن تحسم أموراً كثيرة ، قبل الحدث، لا بعده.. ٭ سيطر هاشم العطا ورفاقه على الخرطوم، لكنهم كانوا يشتهون حدوث المستحيل في القاهرة وطرابلس والرياض.. كانوا يشتهون ما هو أكثر من وصول طائرة فاروق حمدا الله وبابكر النور من لندن.. ما هو أكثر من وصول طائرة داؤود الخليفة من بغداد.. بدأ العدّ التنازلي للحركة منذ اللحظة التي رهن فيها هاشم العطا نفسه أو احتجز نفسه في اجتماع طويل استمر لساعات، مع ضيفه المصري أحمد حمروش، الذي جاء يستبصر الحقائق على الأرض... ٭ عندما خرج موكب التأييد للحركة في قلب الخرطوم، شوهد عبد الخالق يُطِل على الموكب ذو الأعلام الحمراء من ناحية البوستة، ونُقل عنه تعليق بأن ذلك الموكب «ما مفروض يكون بالصورة دي»... وفي قمة عنفوان الحركة كان الأستاذ محمود محمد طه يؤكد للحاضرين في مجلسه، أن الانقلاب سيفشل، وأن «الشيوعيين لن يحكموا»... وعندما أذيع نبأ سقوط طائرة داؤد الخليفة قبالة جدّة، علّق الأستاذ قائلاً، إن تلك الطائرة «اسقطها شيوخ أبو حراز».... ثم تدحرجت حجارة الجبل بغزارة.. ٭ واعترض القذافي طائرة الخطوط البريطانية التي كانت تُقِل فاروق وبابكر، وكانت الإذاعة خلال أيام الإنقلاب الثلاثة تبث المارشات والبيانات والتنويهات، وأناشيد الحماسة، وبرقيات التأييد للثورة التصحيحية.. ولم يكن «وردي» وحده الذي قام بتبديل الخطوط العريضة من نشيده الجميل «حارسنا وفارسنا»..! كان هناك ميرغني المأمون وأحمد حسن جُمعة، الذيْن وصلا إذاعة أم درمان لتسجيل عمل ثوري يمجِّد الحركة التصحيحية، جاءت كلماته هكذا: «هاشم العطا، صحّح الخطأ، وبالنهار جاوَطا،، وشال النميري ودقّ بيه الوّاطا»..! ومن أسفٍ فإن هذا العمل لم يُسجّل، وبذلك ، لم يتجاوز حتى الآن، «قعدات» الرفاق، إذ أنه وفي اللحظة التى كان ضابِط الايقاع يوقِّع فيها البُنْقُز، إستعداداً للتسجيل، كانت الجّلبة تتصاعد خارج الاستديو إثر زحف كتائب أبو القاسم على جزر الإنقلاب المتفرِّقة، حتى وصلت دار الإذاعة... لحظتها ما كان من المبدعيْن إلا تعديل الخطوط في صيغة تتواءم مع الثورة المُضادّة، ولا أكثر من إزالة الحرج بتركيب إسم جعفر في محل هاشم،، ووضع إسم العطا في محل النميري....! ٭ كان ذلك فصلاً من الكوميديا السوداء لم يكن غريباً في عالم السياسة ، فمثله كثير... وحتى الفكاهة كما ترى «شايلة نفسها» مع تقلبّات اهل العُمامة المزركشة.. فكم من زعيم مثل «الحفيد» وقع لثماً في الدّبابير، بعد أن خرج قاصداً إسقاطها..! وكم من داعيةً مثل «الشيخ»، ظل يفترض طول حياته، تأديب السودانيين بتطبيق الشريعة عليهم ..! وكم من مستشار استثماري عرج نحو مدن الملح لاستقطاب الدّعم، فإذا به يفتي بأن السودانيين، قبل الإنقاذ، كانوا طائفة من الشحاذين...! وكم من إنقلابي مثل «الحاج»، كوفئ على الخيانة العُظمى، بتحقيق أحلامه الوردية في السلطة و في الثروة..! وياهو دا السودان..!!