قادتني قدماي أن أمر عبر شارع الحرية الى موقف جاكسون وليتني اتخذت طريقاً آخر، فقد مررت بجوار مدرسة الحلة الجديدة ومدرسة الخرطوم الأميرية الثانوية العامة، وذهلت وتحسرت على حالها.. فقد طالها الهدم والتكسير والدمار الشامل بكل قسوة رغم متانة مبانيها، هذا بدلاً عن ضمها الى التراث القومي حيث تأسست عام 1959م ولم يشفع لها تاريخها وهيبتها وحصولها على المرتبة الأولى وسط مدارس الخرطوم من حيث التفوق والبيئة، هذا قبل أن يؤول حال المدارس الى ما هو عليه الآن من شقق وفصول متراصة (قطار بضاعة).. كنا نسير راجلين نهاية اليوم الدراسي الى موقف المواصلات في السوق العربي والذي كان يضم خطوط معظم المناطق.. ماذا يحدث لهذا الصرح العتيق الذي لا يكون بوسع كل من رآه إلا أن يقول: (انبآني إن كنتما تعلمان ما دهى الكون أيها الفرقدان).. كانت مدرسة بحق وحقيقة يتوفر فيها كل ما هو مفقود في مدارسنا اليوم من انضباط وزي موحد واحترام كل شيء بدءاً من المعلمين والمعلمات واحترام بين الإدارة واصطاف المدرسة، حتى الخفراء منضبطون في (ملاحقة من توهم نفسها من التلميذات بأنها تفادت مكتب المديرة الى الفصل بعد الجرس).. كانت هذه المدرسة تضم ثلاثة أنهر (أ، ب، ج) ومجهزة من معامل وتدبير منزلي وغرفة خياطة وآلات موسيقية ومسرح.. إدارتها محنكة أذكرها حتى اليوم، حيث لا تغيب عنها شاردة ولا واردة عن التلميذات، كانت تشدد على منع جميع أنواع الزينة حتى ولو (حلق ذهب صغير يتم حجزه بخزينة المدرسة حتى نهاية العام)، مواعيد الجرس السابعة والنصف لا أحد يأتي بعدها، وإلا فإحضار ولي الأمر حتمياً لا محالة واقع.. خرَّجت هذه المدرسة العديد من التلميذات، حيث كان المؤهل لدخولها المجموع فقط ،قبل أن يكون هناك مجموع كامل من الدرجات كما يحدث الآن.. لذلك ضمت جميع طوائف المجتمع في مناطق الخرطوم ، وممن ضمتهم هذه المدرسة من بنات المسؤولين والعمالقة في كل المجالات على سبيل المثال ابنة الدكتور التيجاني الماحي، والبروفيسور النذير دفع الله، وبنات الدكتور مبارك الفاضل شداد، وابنة محمد خير عثمان وزير التربية والتعليم، وبنات محمد توم التيجاني، وابنة الدكتور جعفر محمد علي بخيت وزير الحكم المحلي، والعديد ممن لا أستطيع حصرهن فماذا أصاب الجهة التي تدمر هذا الصرح الشامخ شموخ خريجاتها.. هل من أجل تغيير ما هو موجود من صروح قديمة وراسخة وباقية على مر الزمن بأخرى لا تعني شيئاً بالنسبة للكثيرين. وهدم هذا الصرح هدم لمرحلة (الثانوي العام) لكل من درسن بها.