في «إضاءة» الثلاثاء الماضي التي جاءت تحت عنوان «مجرد محاولة لحل فزورة كيري»، قلنا إن تلك إضاءة خافتة أشبه ما تكون بمن يحمل كشافاً كادت حجارة بطاريته أن تنفذ طاقتها المشعة، وهذا هو حال كل تحليل سياسي لا يقوم على معلومات أكيدة وموثوقة. فحاولنا جاهدين أن نستبين القضايا والرسائل التي جاء يحملها السيناتور جون كيري -في زيارته الثانية خلال أسبوعين- لكل من الخرطوموجوبا والتي أسدل عليها ستاراً من السرية باعتبارها رسالة محددة ومكتوبة من الرئيس الأمريكي باراك أوباما سلّمها للمسؤولين في الخرطوم وأطلع عليها -بالضرورة- المسؤولين في جوبا، ممثلين في نائبي الرئيس سلفا كير ميارديت وعلي عثمان محمد طه. وكما تقول العرب «يأتيك بالأخبار من لم تزود» فاجأتنا الغراء «الصحافة» في نفس يوم تلك «الإضاءة» بحصولها على نص «الرسالة السرية» التي حملها رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس جون كيري، لنكتشف أن محاولتنا ل«حل فزورة كيري» لم تبتعد كثيراً عن التوقعات بل لامست جوهر ولب تلك الرسالة التي حاول كيري حجب تفاصيلها وأضفى عليها قدراً من الغموض ورفض في مؤتمراته الصحفية أن يُفصح عنها. فقد قلنا في تلك «الإضاءة» إن القضايا الرئيسية التي يبحث فيها جون كيري ويناقشها مفهومة على وجه العموم، وهي تأمين الاستفتاء على تقرير المصير «للجنوب وأبيي» وكذلك دارفور والتعقيدات التي تحتوش هذه القضايا وتؤرق الإدارة الأمريكية مثلما تؤرق أطراف الصراع المحلية والإقليمية أيضاً مفهومة على وجه العموم، وهي إجراء الاستفتاء في موعده وحل معضلة أبيي لجهة دور المسيرية في الاستفتاء هناك، إذا ما قام في موعده -وهو احتمال بعيد- بالإضافة إلى المعضلات الأخرى التي تكتنف موضوع أبيي من حيث ترسيم الحدود ونصيب كل من الشمال والجنوب في نفط المنطقة وترتيب علاقات التعايش والتساكن والرعي إذا ما تم الاستغناء عن الاستفتاء واستعيض عنه بمرسوم رئاسي يلحق المنطقة بالجنوب. وأضفنا إلى ذلك القضايا العديدة العالقة المتصلة بالمواطنة والجنسية والديون والأصول وخلافات الشريكين ورؤاهما المتضاربة، التي استدعت أخيراً وبعد زيارة كيري جلوس الفريقين لخمسة أيام متتالية -برعاية رئيس لجنة حكماء أفريقيا ثابو مبيكي- لإحراز قدر من التفاهم والتقدم. ثم طوفت من بعد على ردود أفعال كل من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية على الزيارة من خلال تصريحات مستشار الرئيس غازي صلاح الدين ووزير شؤون مجلس الوزراء لوكا بيونق، المحتجة مع قدر من التفاهم بالنسبة للأول، والناقدة والمتشككة في الدور الأمريكي من جانب الحركة. والآن دعونا نذهب إلى ما كشفت عنه «الصحافة»، وهو نص رسالة أوباما التي حمّلها كيري ك(خارطة طريق) أمريكية، والتي لم تبتعد كثيراً وتطابقت في معظم «بنودها السبعة» مع ما ذهبنا إليه في إضاءة الثلاثاء حول «فزورة كيري». ولكن دعونا قبل ذلك التأكيد على أن الرسالة الرئاسية الأمريكية موجهة بشكل رئيسي إلى الشريك الأكبر في الحكم المؤتمر الوطني، وهي في ذلك تستخدم عبارة «حكومة السودان» وتعني «حكومة الخرطوم» وتحدد مطلوباتها السبعة في الآتي: (1) أن يكون استفتاء الجنوب سلمياً ويعكس إرادة الجنوبيين وأن يجري في موعده وتحترم حكومة السودان نتائجه وأن يحسم الوضع المستقبلي لأبيي برضا الطرفين ومنسجماً مع اتفاقية السلام وقرار التحكيم الدولي. (2) أن تتوصل حكومة السودان وحكومة جنوب السودان لاتفاقية حول ترتيبات ما بعد الاستفتاء -التي تشمل إدارة أبيي مستقبلاً- وأن يتم تسويتها دون اللجوء إلى الحرب، بهدف إقامة علاقة تعاونية وذات فائدة مشتركة (3) تتوصل الحكومتان لاتفاقية حول ترتيبات ما بعد الاستفتاء، تشمل الموارد الطبيعية والقضايا الاقتصادية وعائدات النفط والمواطنة وترسيم الحدود وفق أجل محدد يتفق عليه (4) إذا صوت الجنوبيون للاستقلال -لاحظ «الاستقلال» وليس الانفصال- فإن القضايا الموضحة أعلاه تحسم بحلول يوليو 2011 -أي موعد نهاية الفترة الانتقالية- أما البنود (5 و6 و7) فهي عبارة عن تحذيرات من تدخل حكومة السودان في أعمال عسكرية أو خلق زعزعة عبر الحدود «بتدفق الأسلحة واستخدام الوكلاء» وتنفيذ الخرطوم لالتزاماتها بالمشورة الشعبية في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان وحماية حقوق وأمن الجنوبيين الذين يعيشون في الشمال، مع التأكيد على أنها لن تدعم الأرهاب في المستقبل. هذه هي «نصاً» مطلوبات أوباما التي حمّلها كيري، والتي، كما ترى، لم تختلف عن تقديراتنا في محاولتنا ل«حل فزورة كيري» يوم الثلاثاء الماضي، لكن هذه المطلوبات تقابلها وعود وجوائز أمريكية يمكن اختصارها في «تطبيع العلاقات» بين الخرطوموواشنطن «حالما يتم تنفيذ هذه الشروط السبعة». ويمكن تلخيص هذه الوعود والجوائز في: شطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتسهيل حركة التجارة بين البلدين بتوسيع «مظلة الترخيص» -أي خفض سقف العقوبات-، والعمل مع المانحين لإعفاء الديون، والإبقاء على العقوبات رهينة «على السلوك السوداني في دارفور»، بما في ذلك «وضع حد لاستخدام المليشيات العاملة بالوكالة واستهداف المدينين - المقصود هنا بتعبير آخر «قوات الجنجويد»-، والعمل أيضاً على دعم مساعي السودان للحصول على تمويل من المؤسسات الدولية وفقاً للقانون الأمريكي والعمليات المتفق عليها عالمياً ووفقاً للأحكام واللوائح ذات الصلة. والملاحظة الرئيسية التي طافت بذهني وأنا أقرأ كل هذه الوعود والجوائز التي ملخصها «تطبيع العلاقات» إن رسالة أوباما ربطتها جميعاً بموافقة (الكونغرس الأمريكي)، وما أدراك ما الكونغرس الأمريكي الآن، بعد انتخابات التجديد النصفي التي أفضت إلى تقليص نفوذ أوباما وحزبه في مجلس الكونغرس، حيث أصبح الجمهوريون أغلبية غالبة في مجلس النواب وزاد نفوذهم في مجلس الشيوخ بأربعة أعضاء ولم يعد لإدارة أوباما فيه سوى (51) عضواً، إذا غيّر أي ديمقراطي (محافظ) رأيه وقرر التصويت ضد مشروع يخص السودان فلن تستطيع إدارة أوباما تمرير أي من وعودها وجوائزها خصوصاً في المسائل الكبرى المتصلة برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب أو رفع العقوبات. وبإمكاننا أيضاً توقع العكس في حالة تدهور الأوضاع في السودان أو ازدياد وتيرة العنف جنوباً أو غرباً في دارفور، حينها ستحلق «الصقور الجمهورية» في سماء السودان لمزيد من التشدد وإلحاق الأذى مدعومة «باللوبيات» ذات الأجندة المعروفة، وعندها لن يكون أوباما ولا إدارته في وضع يسمح لها بإنجاز ما تعد به من جوائز وتطبيع، وستتحول «فزورة» أوباما والسيناتور كيري «فزورة» عصية على «الحل» -يعني بالسوداني الفصيح «حبال بلا بقر»!- ومع ذلك فلا زلت في حيرة من أمري إزاء غضبة د. لوكا بيونق وتخوفه تجاه واشنطن وإدارة أوباما، خصوصاً بعد الكشف عن محتوى رسالة أوباما أو ما عرف ب(المقترحات الجديدة أو خريطة الطريق)، تلك الغضبة والخوف اللذان عبر عنهما بتصريحاته الناقدة والتي وصف فيها مواقف واشنطن ب«المهزوزة والمتباينة وغير المتسقة» والتي قد تفقد واشنطن الثقة والثقل السياسي في مساعدة الطرفين على الحل - حسب قوله-. وبديهي أن يحيلنا مثل هذا الغضب والتخوف إلى سؤال آخر: هل د. بيونق والحركة لديهم معلومات وأسرار أخرى -غير تلك المكتوبة التي حوتها رسالة أوباما- بمعنى هل وراء الأكمة ما وراءها «ولاّ الزعل فوق كم»؟!