٭ طلب منها الرجل السبعيني المشرق الملامح أن تدخله للسيد الوزير، قالت له السكرتيرة: هل هناك موعداً بينكما، فأجابها بصوت هامس ليس بيننا موعد، ثم ارتفع صوتها قليلاً وهي تقول له: إذن عليك بالانتظار وأظنه سيطول.. لأن السيد الوزير لديه الآن اجتماع مهم جداً مع السادة رؤساء أقسام الوزارة، وفجأة خرج السيد الوزير ليتجه مباشرة إلى حيث يجلس الرجل السبعيني فأخذ يقبله على رأسه ويده إجلالاً، لم تكن المسكينة تعلم أن الرجل الذي كان يجلس أمامها ساعة كاملة كان والد السيد الوزير. ٭ كان الفنان أحمد الجابري محباً لوالدته لدرجة أنها لو أصيبت بصداع خفيف أعتذر عن حفلاته لمدة شهر كامل، كان يطعمها بيديه ويظللها بعينيه، كان يقول عنها إنها حبيبته وملهمته ويقول إن حبات المسبحة البيضاء في يدها تضيء وإن رموش عينيه هي السجادة التي تصلي عليها، لم يعش الجابري إلا أشهر قليلة بعد رحيلها، وظل بعدها صاحب «الطاؤوس» في حالة من الذهول جعلته مشتتاً على الأرصفة لا يعبأ بأحد من الناس إلى أن لحق بها. ٭ أستمتعت ذات يوم من الفنان الكبير أحمد شاويش إلى أغنية صاغتها شعراً الراحلة ليلى المغربي، كانت الأغنية رقيقة كأجنحة الفراش، كانت كأنها عيون تتوضأ من مياه مقدسة، ما أجملها ليلى، ما دخلت إلا مبتسمة وما خرجت إلا مبتسمة وما ارتحلت إلا أحسبها شهيدة، وأخذت أسأل نفسي إلى متى يظل شاويش الغناء مصراً على حبس أغنية كتبتها ليلى، وأنا أقول له قد تهاجر الفراشة ولكن إحساسها يبقى بين عبق ألوان الأجنحة. ٭ استغرب كثيراً أن أرى اللؤلؤة على جيد غانية، أن أرى اللص يتحدث عن فضيلة الأمانة، أن أرى الزهرة تموت عطشاً والبستاني ينام عند أطراف الحديقة، استغرب أن أرى الجميلة وقد تنازلت عن عرش جمالها لمن لا يستحق أن يكون لها خادماً تحت أقدامها، استغرب كثيراً لهذه المفارقات التي تمتليء بها الحياة فلا أجد جواباً غير صمت يمتد إلى من يرى سكين قاتله فيهرع مشتاقاً إلى تقبيلها. ٭ تمنيت أن تطول إقامتي بين أحضان مدينة كسلا حتى أتمكن من القيام بعملية غسل كامل لمشاعري التي علق بها ما علق من أوحال نتجت عن معارك خضتها في غربة طالت خرجت منها بقلب ليس قلبي الذي أعرفه أبيض مثل لبن الأمهات، بل أصبح قلباً آخر فيه من الجراحات ما يجعله يبحث عن براءته الأولى في مدينة كسلا التي تعلمت منها أن الخناجر تتحول إلى جوقة من الإنشاد.