نعم عدنا من الديار المقدسة مروراً... بمصر يا أخت بلادي يا شقيقة ... وجدنا الدارين بوادي النيل يعانون من ذلك اللص الآثم الذي اخترق حياة الدارين.. دارنا ودار جارتنا في شمال الوادي... كنت تواقاً للقاء الشلة العزيزة في ليالي شارع الاربعين (م) عبد الحميد جمعة، ومكي عثمان، وهشام ساتي... سألوني كيف وجدت الدار بعد الوصول وكيف حال ديار مصر.... قلت لهم إنهم يشبهوننا كثيراً فيما نعانينه... فمنذ وصولي وجدت الوجوه وقد ازدادت شحوباً ومرضاً فقد دخل علينا، وعليهم لصين اسمهما الفقر والمرض.. أما اللص الكبير اسمه الدولار... لص مجرم آثم تسلل الى بيوت الناس تحت جنح الظلام، وفي غفلة من الجميع وسرق أغلى ما في حياتهم وظل صاعداً.. وصحا الناس فإذا هم غير الناس وجوههم مكشرة، وملامحهم كلها مرض وغضب ونكد، وكأن الكآبة أصبحت طاعونا أصاب الجميع بلا استثناء... فقد الناس في شمال وجنوب الوادي القدرة على الضحك والابتسام عندهم وعندنا على هذه وتلك الأرض الطيبة... لم تعد هناك آخر نكتة التي كل يرددها باستمرار الاقتصادي خفيف الظل عبدالرحمن عباس محجوب ابن الطرفين، الذي ولد ودرس هناك وعاش هنا، حتى أصبح من كبار القيادات الاقتصادية، وكان أحد مديري مكتب مشتريات حكومة السودان بلندن، ولعله الآن جالس بمنزله بحي الديم بالخرطوم، وأضحت اهتماماته أخيراً بشأن الأوراق المالية والاستثمار المالي .... فقد عرف دائماً باهتمامه بالنكات وبآخر نكتة... تلك التي كان معشر السودانيين والمصريين يبتكرون كل يوم عشرات منها يؤلفونها ويتداولونها ويضحكون من قلوبهم عليها، وينسون فيها مصائبهم ومشاكلهم، ويغسلون بهذه النكات الهموم من حياتهم.. رحم الله ملك الطرب والنكتة في الحياة السودانية ابو داوود وملوك النكتة والظُرف بشير مبروك، ومبارك البلوك، واسطى حبيب، وشيخ ميرغني حسون، الذين كانت دكاكينهم واحة لظرفاء المدينة - نعم عدنا للديار وقد وجدنا أعداداً من الأجيال، وقد انتقلوا الى رحمة مولاهم ومنهم من لزموا سرير المرض بالمنازل والمستشفيات بالداخل وبالشقيقة مصر - نعم عدنا فلم نعد نسمع الضحكة من القلب تأتي من الجيران في السكن الجماعي الذي نعيش فيه، أو في الحي القديم والأزقة التي ولدنا فيها بام درمان القديمة، أو حتى من المكاتب المجاورة التي تجاورنا في المبنى والبرج الضخم بوسط الخرطوم، والذي يحيط به سماسرة ذلك المرض اللئيم الذي تسلل لحياتنا في غفلة من الجميع أنه الدولار... أنهم صبية دولار ريال... نعم وكل ما أصبحنا نسمعه أصوات التوتر والصراخ والعصبية والشجار، وكأن الناس قد تحولو الى براكين تمشي على الأقدام وقابلة للانفجار في أية لحظة ولأتفه وأوهى سبب، وأحياناً كثيرة بلا سبب... تمشي في الشارع فلا تجد حولك إلا وجوهاً مكشرة ومقطبة... - لم يعد يفرح الجميع كما قال لي ذلك الصديق العزيز ولم يعد يفرح إلا حينما تمسك أصابعهم بأوراق العملة.... القروش فقط أصبحت طريق الناس الوحيد للفرحة، لكنها فرحة مزيفة وزائله، فالقروش إذا وصلت الى الجيوب سرعان ما تطير وتطير معها حتى مشاعر الفرحة الوهمية... قلت لهم البهجة أصبحت حلماً صعب المنال.. والسعادة كلمة عجز الناس عن إدراك معناها الحقيقي، ولهذا تجمدت وتصحرت قلوب البشر لأن الذي لا يعرف كيف يفرح وكيف يضحك لا يعرف كيف يحب، ولا يقدر على العطاء لا لغيره ولا لنفسه.... القاريء العزيز: - نعم عدنا للديار قابلني أخ كريم يشكي بمرارة إفرازات مآسي حدثت له... وقد حدثت له في فترة غيابنا مرارات عديدة له ولاعزاء كرام، حدثت من بعض ذوي النفوس الضعيفة... رواها لي بكل أسى وحزن وقلت له مواسياً... لا تحزن يا أخي ... ومن الطبيعي أخي الكريم... هو أن الإنسان مخلوق اجتماعي لا يمكنه الاستغناء عن الناس، طالما أنه على قيد الحياة، ومعنى ذلك أن هذا الإنسان سيؤدي الى الآخرين بعض مايحتاجون إليه.. لذا إذا أحسنت الى أحدهم ولم تجد منه إلا نكراناً أتركه لله الذي لا تضيع الودائع عنده، وطبعاً في النفس مرارة وأسى ولكن... إن النفوس الكريمة لا تعرف الجحود، ولا النكران ولا الحسد ولا تبخيس الناس أشياءها... نعم النفوس الكريمة ستظل على الدوام وفية معترفة لذوي الفضل بالفضل...أما اللئيم فإنه لا يزيده الإحسان والمعروف إلا تمرداً وعندما تلتقي بأناس عادتهم نكران الجميل وكفران الإحسان، والضرر والمضرة حتى لو كانت في مصلحته، فحاول أن تذكرهم دوماً بما رواه الصحابي الجليل النعمان قال.. قال الرسول صلى الله عليه وسلم التحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والحليم هو من يتعامل مع الناس وفق قواعد مرنة ويخاطبهم على قدر عقولهم، ولا يتوقع من الناس أجمعين شكراً أو إحساناً فإن رضى الناس غاية لا تدرك، ويكفي المرء إحساسه وإيمانه بقدراته.. أما من ينتظر أن يقيمه الآخرون فلا شك أنه سوف يعاني كثيراً، وليتنا جميعاً نعلم أن قيمة الإنسان فيما يصنع وليس فيما يتحدث به الآخرون الذين لا يفهمون أن محاولات التشتيت والفرقة والإساءة للإنسان الكريم أو الجموع الكريمة لا ترهبهم، بل ترفعهم عالياً، إذ إنها تعرف قدر وقيمة الخير والعطاء وغيرهما من طباع إيجابية وبناءة تكمن فيه، ولا شيء يثنيه غيرها... إنها رسالة مستمدة من ديننا الحنيف ومن السلف الصالح.. نعم لله عباد اختصهم بقضاء حوائج الناس حببهم الى الخير وحبب الخير اليهم، إنهم الآمنون من عذاب يوم القيامة... القارئ العزيز: - نعم اختفت الفرحة والبهجة من النفوس - من يعثر على الفرحة له مكافأة كبيرة عند الله عز وجل - نعم مكافأة كبيرة - كان الله في عون الدار وحفظ الله الديار... نواصل...ت/0912366709ت/0912304336