في وقت لم تنتهِ فيه حادثة ضبط حاوية المخدرات الأولى التي أذهلت الشارع العام وأقلقت المواطن وها هي تنبت من جديد عصابة غريبة من نوعها تحاول إدخال حاوية أضخم من التي سبقتها، تجارة المخدرات وترويجها أصبحت على «عينك يا تاجر»، فمن المعتاد أن يقف تجار العملة على أرصفة الطرقات لاستقطاب زبائنهم، لكن الغريب في الأمر أن نجد أن مروجي المخدرات أصبحوا يقفون بكل جرأة على الأرصفة يروجون لهذه السموم أمام عين المارة مستخدمين سيارات فارهة اساليب جديدة وبينما أنا أمتطي حافلة الحاج يوسف وعلى شارع الهواء، توقفت المركبة لعطل في محرك الوقود، فأسترحنا خارج الحافلة على جسر المشروع المجاور للطريق، تفحصت بنظرات ذكية أن هناك أعداداً من الشباب على شكل جماعات، سألت من يقف بجواري عن سر هذا التجمع، أجاب بأن هؤلاء تجار مخدرات، وبسرعة نادى على أحدهم وبسؤال عاجل قال له أي صنف تحمل؟.. أجابه «كلو شم بلع دخان» طلبك يا معلم، و«قدر ظروفك»، وقتها لم أتمكن من إدارة ملامح وجهي، تسللت لوذاً من بينهم إلى أن أقتربت من المركبة التي حينها كان قد تم إصلاح العطب الفني وبدأت رحلتنا مرة أخرى إلى أن وصلنا آخر محطة، ما حدث أمامي يفسر بأن الأمر استشرى إلى حد بعيد، ومهما تحوطت الدولة فإن هناك قدرات خارقة من الخارج تجعلها عاجزة عن مواجهة تنامي قدرة وقوة عصابات المخدرات وازدياد عدد المتعاطين لأنواعها المختلفة، ولأن العائد من تجارة المخدرات بأنواعها المختلفة مغرٍ وذو عائد سريع، تكونت شبكات دولية ومحلية وأصبحت هذه العصابات تفوق إمكاناتها المادية واللوجستية، إمكانات أية دولة، وأصبح لبعض رموز العصابات نفوذ عظيم مما يجعلها قادرة على اختراق مراكز صناعة القرار. هوية المخلص في غضون الأيام الماضية تم ضبط أكثر من خمس حاويات محملة بالمخدرات داخل ميناء بورتسودان، وكانت الضبطية الأولى داخل ثلاجات ديب فريزر تبلغ 685 كيلو جراماً، تم التعرف على هوية المخلص الجمركي، فيما تضاربت الأقوال حول الجهة التي استوردتها، ولم تمضِ على الحادثة أيام قلائل ليتم مرة أخرى ضبط حاوية مخدرات داخل الميناء، بعد أن تم الفحص في الضبطية الأولى وتحصلت السلطات على اسم المحصل الذي كانت تتبع له شحنة الثلاجات، وبين هذه وتلك تأتي حادثة أخرى جعلت من وقوعها سبباً لاستنفار الشرطة وإعلامها وانتشار حملات توعوية داخل منابر الجامعات، وهذه الحاوية كانت غريبة من نوعها والتي تأتي تفاصيلها على ضبط خمس حاويات على متن سفينة بضائع تتبع لشركة ملاحة بحرية عالمية إلى ميناء بورتسودان قادمة من ميناء دولة عربية، وشرعت السلطات في استجواب الشركة المستوردة وفحص أوراق البضائع المشحونة على السفينة، وتقدر قيمة الحاويات الخمس بمبلغ «23» مليار دولار، وتزن حمولتها أطناناً، وهنا تدخلت كافة أجهزة الدولة في الحصول على المعلومة التي تدفع بهؤلاء لمثل هذه التجارة الخطيرة من نوعها، وعلى نحو مفاجيء دفع جهاز الأمن بمتهمين اثنين في هذه العملية. أسرار العملية وكشف الناطق الرسمي باسم الشرطة الفريق السر أحمد عمر عن أسرار عمليات ضبط حاويات المخدرات بالميناء وعن معلومات جديدة عن وصول الحاويات ومساراتها السابقة قبل وصولها للموانيء السودانية، وأشار السر لجهود شرطة مكافحة المخدرات في تتبع ورصد الحاويات ومراقبتها بعد وصول معلومات موثقة عن احتوائها على مخدرات محرمة ومحظورة دولياً، وقال خلال حديثه في ندوة خاصة عن التنوير بخطر المخدرات نظمت ب «إس إم سي» مؤخراً، إن شرطة المكافحة والشرطة الدولية وبالتنسيق مع هيئة الجمارك السودانية ظلت تراقب الحاويات منذ تاريخ وصولها وحتى تحريك إجراءات تخليصها من قبل المخلص، وألمح السر إلى أن السودان لم يكن المحطة الأخيرة في هذه العملية، وإنما الهدف ربما يكون تمويهياً بغرض إعادة تصديرها إلى دول أخرى والسودان معبر لهذه التجارة، وقال «مافيا المخدرات تفكر في عملياتها في دولة والتنفيذ يتم في دولة أخرى بينما موقع الجريمة يكون قطراً آخر، وقال أحمد إن السودان لا يمكن أن يستهلك مثل هذه الكميات الكبيرة من الحبوب، وأضاف أنها عبرت «ميناء جبل أم علي بإمارة دبي قادمة من موانيء اليونان وموانيء المملكة العربية السعودية وموانيء جيبوتي ومن ثم إلى الموانيء السودانية»، ويرى السر أن موقع السودان الجغرافي وامتداداته الحدودية عبر الصحراء جعله من أصحاب النفوذ في تمرير مثل هذه التجارة، وقال إن قائمة المتهمين في حاويات المخدرات لا يوجد بينهم سودانيون، لأنهم يدبرون من خارج السودان، ويكفي أننا لهم بالمرصاد. خلل في المباديء ويقول مدير منظمة الشفافية السودانية دكتور الطيب مختار، إن هنالك غياباً كبيراً في تطبيق المباديء التي تقوم عليها الأعمال الخاصة، وهذه المباديء متمثلة في المحافظة على أمن واقتصاد البلاد، وحذر أصحاب القطاع الخاص من خطورة استخدام منح الاستثمار في تجارة المخدرات. محاكمة التجار وبالمقابل يقول المحامي د. عادل عبد الغني لا بد أن يكون في العون الإقليمي رصد للشخصيات التي تتاجر في المخدرات ومراقبتها ومتابعتها وفتح ملفات لها وتبادل المعلومات بين دول التعاون الإقليمي، وكذلك يجب أن لا يقف الأمر على اتفاقية التعاون العربي، فهناك اتفاقية الرياض للتعاون القضائي التي تجعل الدول تتعاون في تسليم المجرمين وتبادل القضايا ومحاكمتهم، كما لا بد أن نتجاوز مرحلة الإجراءات القضائية إلى مرحلة الاستباق ومرحلة الوقاية، وذلك في كشفها ومنع وقوعها، ويضيف المحامي أن الحادبين على الأمر يسعون لأن تكون محاكمة تجار المخدرات بالقانون الجنائي الدولي مثلها مثل جرائم الحرب وجرائم الإنسانية، لا سيما أن هناك اتفاقية الرياض للتعاون القضائي، فهي تسهل القبض على المجرمين وتسليمهم للدولة التي تطلبهم، وأيضاً محاكمتهم وتسليمهم للدولة الأم إذا رغبت في محاكمتهم داخلياً، ويرى عبدالغني أن ميزات السودان في حدوده الواسعة ومجاورته للأقطار الغنية مثل دول السعودية والإمارات العربية جعلت هذه العصابات تركز على تهريب المخدرات عبر البحر الأحمر أو البحر الأبيض المتوسط خاصة وأن الحدود الخليجية هي حدود طويلة ووعرة وكانت في السابق تصعب مراقبتها كما في ليبيا سابقاً حينما كانت ميسورة الحال، لذلك يحاول المهربون أن يعتبروا السودان كمخزن لهم ولكن التجربة تدل على أن قدرات السودان تطورت في الاكتشافات في مثل هذه المجالات، وقد فات على العصابات أن السودان مجتمع مفتوح والمعلومة فيه ميسور الحصول عليها، كذلك في أوقات كثيرة أحبطت عمليات تهريب خاصة في ظل التعامل الذي كان بين السعودية والسودان حينما ساعدت المملكة بمد الأخير بالأجهزة المتطورة في الكشف عن هذه العصابات، وكان المشروع يشمل مدها بطائرات.