في الطابق العلوي لمحكمة جنايات بورتسودان، وفي القاعة الواقعة على لجناح الجنوبي بالطابق العلوي، وهي القاعة الأولى ضمن ستِّ قاعات، يتكون منها مبنى المحكمة؛ ينظر مولانا معتز البكري السماني قاضي درجة الأولى، في أخطر قضايا العام المنصرم، قضية ضبط حاوية معبأة بمخدرات في الميناء الجنوبي ببورتسودان في أبريل الماضي. وتعود تفاصيل القضية إلى أن شبكات متخصصة في تهريب المخدرات، بقيادة شخص سوري الجنسية يُدعى أبو سطيف مصطفى، تمكنت من إنزال شحنة مخدرات بميناء بورتسودان، ضمن شحنة ذرة شامية تم استيرادها بواسطة شركة سودانية ومخلِّص سوداني، تصل حمولتها أكثر من 2400 كيلو جرام، تم ضبطها بناءً على إشارة جاءت من مكتب الشرطة الدولية ببيروت للسلطات السودانية، وبيروت هي نقطة الانطلاق التي تحركت منها البضاعة، وهي عبارة عن 1004 جوالات ذرة شامية، من بينها 47 جوالاً من زنة خمسين كيلو جراماً، محشوة داخل جوالات الذرة الشامية وهي بزنة 80 كيلو جراماً، معبأة في خمس حاويات مقاس 20 قدماً، قادمة من لبنان للسودان بوصفها ذرة علفية. جلسات المحاكمة بدأت وانتظمت منذ مطلع ديسمبر الجاري، بعد سبعة أشهر استغرقتها مرحلة التحري. وعقدت المحكمة حتى الآن حوالي سبع جلسات، آخرها أول أمس الخميس. /////// *شاهد اتهام: ربما فكرت عصابات التهريب في تفجير الشحنة إذا افتضح أمرها *هذه قصة المكالمة الهاتفية من بيروت إلى الخرطوم *جدل في المحكمة حول صحة أم خطأ الكشف عن الحاويات قبل القبض على المتهم الرئيس *ما علاقة الشحنة بأخرى ذهبت إلى الإمارات؟ قصة الاكتشاف جلسة الخميس الماضي على غير العادة، كانت ساخنة، أدلى خلالها شاهد الاتهام مدير شرطة مكافحة المخدرات السابق بالبحر الأحمر مدير دائرة العمليات والمكافحة بمكافحة المخدرات المركزية حاليَّاً العميد شرطة حقوقي صالح يحيى؛ أدلى فيها بإفادات على اليمين بوصفه شاهد وقائع، أبان فيها أنه تلقَّى في يوم 17 أبريل مكالمة هاتفية من المقدم شرطة جبريل النور آدم مدير جوازات السفارة السودانية ببيروت، أبلغه فيها برغبة مدير مكافحة المخدرات ببيروت العقيد غسان شمس في تمليكهم معلومة مهمة، وبالفعل تم تزويده برقم الهاتف الجوال لمدير عام مكافحة المخدرات بالسودان اللواء المكي محمد المكي، واتصل المسؤول اللبناني باللواء المكي، وأبلغه بأن شحنة من المخدرات دخلت الموانئ السودانية تحت غطاء ذرة شامية. وكشف الجانب اللبناني خلال المكالمة عن معلومات كافية وشاملة تحوي حتى أرقام الحاويات وعددها والشركة المصدرة من لبنان للسودان والشركة المستوردة بالسودان والشركة الناقلة وميناء الشحن وميناء التفريغ، وتمت إحالة المعلومات للبحر الأحمر كدائرة اختصاص. الخطوة الأولى أفاد مدير شرطة مكافحة المخدرات السابق بالبحر الأحمر بأن أول خطوة اتّخذها فور تلقيه للمعلومة هي تسجيل زيارة لموقع الحاويات داخل الميناء والتأكد منها، ثم الذهاب لمدير شرطة جمارك الميناء الجنوبي العميد شرطة عبد المحسن داؤود وتمليكه المعلومة واستدعاء مسؤول الاستخبارات في جمارك الميناء الجنوبي النقيب هيثم، وذلك بهدف وضع خطة أمنية محكمة. وأبان العميد شرطة صالح يحيى أنهم اتفقوا على أن يصدروا قرارَيْن عاجلَيْن هما: حجز الحاويات موضوع الشبهة، وعدم السماح بإعادة تصديرها لأية دولة، وعدم السماح بتخليصها في أي ميناء جاف داخل السودان، ومن ثم تم تشكيل فريق للمراقبة والرصد والمتابعة، وبعد ثلاثة أيام من المراقبة تم تحريك الإجراءات الأولية لتخليصها، وتم نقلها من منطقة التخزين إلى منطقة الكشف الجمركي حيث الأشعة السينية بميناء "دمادما". في هذه اللحظة - والحديث للشاهد - تم ضبط متابع التخليص والتحري معه عن ملاك البضاعة وصاحب رخصة التخليص، فأرشد بدوره لمتابع تخليص آخر يُدعى سنهوري محمد علي، وبدوره كشف عن صاحب رخصة التخليص وعن شخص آخر سوري الجنسية يتابع معه إجراءات التخليص، ويقوم بتحويل مبالغ التخليص. في الأثناء تم تشكيل لجنة أمنية للإشراف على فتح الحاوية، والتأكد من وجود الحبوب المخدرة. وبالفعل تم فتح الحاوية وتفريغها بواسطة عمال يومية عن طريق تفتيش يدوي، حيث تم تفتيش كل جوال على حدة، وفي الصف الثالث من الشحنة في الحاوية الأولى تم العثور علي جوالات زنة 50 كلغ، مخبأة داخل جوالات الذرة الشامية أو تصل سعتها 80 كلغ، وتم جمعها وعدّها فبلغت 47 جوالاً تزن أكثر من 2400 كيلو غرام، تقدر بأكثر من 15 مليون حبة مخدرة من صنف مخدر يسمي "الكبتاجون". وتصل القيمة المادية للمضبوطات أكثر من 354 مليار جنيه سوداني. جدل حول الخطأ والصواب أقر مدير شرطة مكافحة المخدرات السابق بالبحر الأحمر، العميد شرطة حقوقي صالح يحيى، بأنهم وفور اكتشاف المخدرات وجمع الخيوط الأولية في القضية، تم تحريك الإجراءات الجنائية في مواجهة المتهمين المخلص ومتابعي التخليص وملاك الشركة، حيث تم تحرير بلاغ في قسم ديم موسى تحت القيد 42 تحت المواد 15 / أ من القانون الجنائي و198 و199 من قانون الجمارك، وتم إسناد قيادة فريق التحري لمدير المباحث والتحقيقات الجنائية بالبحر الأحمر العقيد شرطة خالد محيي الدين قناوي، وتم حجز البضاعة والبدء في إحالة عينة من الحبوب المضبوطة للمعمل الجمركي ولهيئة المواصفات والمقاييس ومباشرة التحريات التي امتدت من أبريل حتى نهاية نوفمبر الماضي بإشراف من وكيل النيابة الأعلى بالولاية المستشار سيف اليزل سري ووكيل النيابة المباشر حسن عبد الله. وتشير (السوداني) إلى أن محامي الدفاع عن المتهمين رأوا أن إجراءات القبض على المتهمين في بورتسودان وبث نبأ ضبط المخدرات في وسائل الإعلام مَثَّلَ خطأً فادحاً، لكونه قطع خيوط القضية، وكان من الأصوب تمرير البضاعة حتى نقطتها النهائية للوصول إلى جميع المتهمين، لكن مدير المكافحة شاهد الوقائع العميد صالح يحيى برر ذلك بعدم وجود ضمانات كافية لسلامة وصول البضاعة، لجهة أن عصابات التهريب ربما تقوم بتفجير البضاعة أو تهريبها، غير أن المحامي معاذ حسن بخيت من هيئة الدفاع ردَّ على ذلك بأن الضامن هو الشرطة والأمن والقوات المسلحة السودانية، وأشار إلى أن المحطة النهائية للحاويات كانت ميناء سوبا الجاف وليس بورتسودان بحسب بوليصة الشحن، ودخل في جدال مع العميد صالح في أن النقطة النهائية للحاويات سوبا، في وقت أصر فيه العميد على أن النقطة النهائية هي بورتسودان، وتم الرجوع للمستند الذي أوضح أن المحطة النهائية للحاويات هي سوبا، ومصدر الجدال هو أن البوليصة مكتوبة باللغة الإنجليزية، الأمر الذي لم يساعد الشرطة في الانتباه له. وأوضح معاذ أن أحد المتهمين قال للسلطات عند القبض عليه بأن صاحب البضاعة سوري الجنسية، يعتزم الوصول من سوريا للخرطوم لاستلام بضاعته، لذلك من الأفضل عدم الإعلان عنها وتمريرها حتى يتم القبض عليه، إلا أن الشرطة استعجلت في إعلان الضبطية في وسائل الإعلام والقبض على المتهمين، غير أن العميد صالح شدد على أن إجراءات فتح الحاويات والكشف عن المخدرات كانت بتقديرات أمنية رأت أن أفضل الطرق هي الكشف عن الحاويات داخل الميناء وعدم السماح بتحركها لأية جهة، وقال: "نحن قررنا الفتح لأننا لا نضمن سلامتها في حال خروجها من الميناء، وكان إخراجها من الميناء مجازفة، لأن من شأن ذلك أن يمكِّن الجناة من اتّباع أساليب في الإفلات من القبض عليهم"، وأضاف أنه وبحسب المستندات التي توفرت له يعتبر أن عناصر الجريمة مكتملة، وأن المتهمين الرئيسيين تم القبض عليهم، وليست له بينات مستندية كافية لتورط المتهم السوري في البلاغ. وقال العميد صالح يحيى إنه يسمع بأبو سطيف من خلال إفادة متابع التخليص شقيق المتهم الأول، الذي أفاد بأن هناك شخصاً يُدعى أبو سطيف يتابع إجراءات التخليص، ويقوم بتحويل مبالغ التخليص. وشدد مدير مكافحة المخدرات بالبحر الأحمر السابق العميد صالح يحيى على أنه يعتقد أن المتهم الأول في البلاغ لديه معلومات كثيرة لم يملكها للمتحري. العميد صالح يحيى اعتبر أن وصول السلطات للشركة المستوردة والمخلص بينة كافية لإعلان الضبطية، مشيراً إلى أنه لم يرد اسم المتهم السوري أبو سطيف في تقرير الإنتربول بوصفه مالكاً، وإنما ورد كمشارك في عملية تهريب المخدرات. وكشف صالح أنه وبحسب خبرته في المجال الجمركي، فإن أجهزة الأشعة السينية لا تكتشف هذا النوع من الحبوب، ولا يمكن اكتشافها إلا بواسطة التفتيش اليدوي، وقال إن الشحنة التي تم ضبطها كانت جزءاً من شحنة أخرى اتَّجهت للإمارات، وتم ضبطها هناك وتصويرها وإرسال صور منها بالواتساب في إطار تبادل المعلومات لإطلاعنا على الطرق الحديثة في إخفاء المخدرات داخل الشحنات عابرة البحار. وزاد صالح: "وصلتني صور بالواتساب من الشرطة الدولية، تشرح طريقة التخبئة، الأمر الذي مكَّننا من الاكتشاف بسهولة". هذا وأجاب شاهد الوقائع العميد صالح يحيى الإفادات عن أسئلة الاتهام الذي مثله وكيل النيابة الأعلى المستشار سيف اليزل سري، ومحامو الدفاع، وهم مجدي محمد حسين عن المتهم الأول (متابع التخليص) ومعاذ حسن بخيت عن المتهم الثاني (موظف شركة شحن سورية يحول المبالغ من الخرطوم للمتهم الأول)، وقمر أزرق عن المتهمَيْن الثالث والرابع (مالكي الشركة المستوردة)، وفاطمة أحمد عن المتهم الخامس (صاحب رخصة التخليص)، كما أجاب العميد عن أسئلة واستفسارات قاضي المحكمة مولانا معتز البكري السماني، فيما ظل رئيس الشرطة القضائية بالولاية الرائد شرطة أبو القاسم محمد حسين يحضر بنفسه جميع الجلسات الخاصة بهذه القضية، بجانب حاجب المحكمة الرقيب شرطة عمر عبد الله. وتجد جلسات المحكمة اهتماماً واسعاً من المحامين، وتمتلئ مقاعد الجمهور بأعداد منهم.