العبارة «حين ما تَهرْدو» مازالت متداولة في وصف إجادة الرقص..! لكن الشيخ اسماعيل صاحب الربابة، قد ذهب إلى أبعد من الانبهار برقص المرأة الخرافي..إنه يتحدث عن قضاء وطره،، عن «قضاء غرضه» باحتواء المرأة كجسد..! إنّه يتحدّث عن الإشباع الجنسي المباشر..! قال صاحب الربابة: «صبْ مطر الصّعيد وطلق علينا بَرْدو - خشُم هيبة يشْبه طيّات البِحرْدو / تَعجْبكْ في الرّقيص حِين مَا تَهرْدو- يَاهنيّة مَنْ حَوَاها وقضّى غَرضُو»..! هذا نحو من غناء الشيخ في معشوقته «هيبة»..إنّه يتغزّل في ثغرها الذي يشبه «طيّات البِحردو» - لهاة طفل رضيع.. إنّه يمتلئ بوحي إمرأة استثنائية في زيفة الصعيد الملهمة..إمرأة تجيد الرقص «حين ما تَهرْدو» أي عندما تنغمس فيه.. عند تلك الحالة، كأنها تنسى نفسها، وتنسى كل وقار، تماماً كحال الشاعر.. وهو في ذاك،لا يُمنّي نفسه دون الآخرين، بل يتمنى ذلك لكل من يريد، إذ يقول: «ياهنيّة من حواها / احتواها»..! كأنّها - أي المرأة- جائزة في مضمار سباق..! وهنا، نعيد السؤال: أين هي تصاحيف الفقهاء في ذلك العهد، وكيف ينظر دعاة الأسلمة إلى هذه الخمريات، وذاك الغزل، والشيخ يعلن عن رغبته الكاملة في الاشتهاء، داخلاً دون مواربة إلى خِباء «كَبَريت» أنثى ليست أنثاه «الفقهية»، وإنما بإطلاق..؟ لا شك أن للمشهد وجه آخر، ولكنه مشهدٌ يستعصي أيضاً على الذهن السلفي.. فلنقل مثلاً، إن نساء الشيخ اسماعيل: هيبة، تهجة، مُهرة الضنقلاوي، وغيرهن.. ليسن سوى رمز للذات القديمة، ولما هَدَج الأقدمين بذكره.. لنقل أن صاحب الربابة كان يُرمِّز ل «المكنون» شأنه في ذلك شأن العارفين، باسم ليلى، وسعدى وسلمى..إلخ ..لنقل إنه ضرب على تلك الأوتار تجسيداً لحال العروج، وأن اللّذة التي شدا بها، لم تكن حِسّاً، بل هي معانٍ في سياق«بانت سُعاد»..! لكن هذا الوجه أيضاً، ممّا لا يطيق السلف، مثلما أنّهم لا يطيقون ملامسة المعنى الحِسّي بتفكيك العبارة.. وليس بعد ذلك، إلا بالغاء النص كليّة، وعدم الاعتراف بقائله، ونفى تواجده الفاعل في عصره..أي نفي حقيقة أن الشيخ إسماعيل صاحب الربابة، قد عاش أيامه في السلطنة الزرقاء، وأن عالمه المتفرِّد قد تساكن مع القداسة، واللذة، والفروسية، والأشواق، والمغامرة، والإقبال على الحياة.. لكن هذا هو التاريخ.. هذا هو شجن الشاعر الذي لم ينفصل عن حاله الروحي.. فهو في نزوعه للوصل بالنساء، كان يرى «خير البرية».. وفي ذلك يورد ود ضيف الله، هذا البيت الفصيح منسوباً للشيخ: «إني رأيتُ في ليلتي في منامي- خير البرية ضاحكاً مستبشرا»..! يقع له هذا الكشف، مع أنه يذهب إلى أقصى مدى في التمرد على الكوابح، وكسر مكاييل وموازين الفقهاء، ليُرسِّخ حقيقة أن الدين دين قلوب.. نحن هنا لا ننفي خلو ذلك العهد من «نصوصه الحاكمة»، بل نؤكد على خطل الرؤية المتعجلة في الحكم على الماضي ونرفض التعميم والادعاء بتطبيق نصوص الفقه- الشريعة- في عهد سلطنة سنار، التي كانت تستهدي بما هو متاح من قيم المذهبية الصوفية.. وقد كان عالم الشيخ اسماعيل، مثالاً لما كان عليه الحال العقدي في ذلك الزمان الهجين،الذي كانت فيه العامية السودانية، قاسماً مشتركاً، مثلها مثل أخوة الطريق التي لملمت شتات الربوع ، وجانست التماسك، في مجتمعٍ كان الرجل فيه كأنّه «فراشة» تتغشى نساءاً سقط قناعهن القبلي.. في ذلك الظرف التاريخي كانت القداسة في عنوانها العريض، فتحاً تضيق عنه أوعية بعض الرواد، ناهيك عن العامة، لأن المجتمع حينها كان قد بدأ «التتْوير/ التثوير».. كان قد بدأ الصحو، مستقبلاً «الفجّاج»..!