قد تكون العبارة، «أم عوايد» تمييزاً لامرأة بعينها، ذلك أن الشاعر الشيخ، لم يأتِ على ذِكر اسمها، كما ذكر تحديداً أسماء عشيقاته الأخريات، تهجة، هيبة، ومُهرة «الضُّنقلاوية»، وغيرهن.. كانت «أُم عوايد» الوارد ذكرها في النص التالي، في ذات المضمار، مضمار انطلاقته مفتوحة الاحتمالات، على مفاخر اللذة.. قال الشيخ إسماعيل في مدح تلك الأنثى: «نسِل السيف نلوح فوق أُم عوايِد... نطُلب العنكش أُم طبعاً موافق... وجهاً إن شَافتو الحُمّل تدافِق... تخلات عروسك ديك، ما بتوافق».. هذا هو عالم صاحِب الربابة، صاحب السجّادة وسليل ملك تقلي.. السيف في يده، وهو «يشيل» الشبال من عشيقته، التي تزين شعرها بالعنكش.. العنكش هو نوع من الحلي ذات الرنين، حلي ذهبية أو غيرها، توضع على شعر المرأة.. أما السيف، فضرورته في الزمان أن الناس كانوا يحتاجونه في تلك البيئة الطبيعية والقبلية الخشِنة.. السيف يشي بحالة تهيؤ للحرب من أجل الظفر بتلك الأنثى التي تستحق أن يدخل الحرب من أجلها، لأنها مستودع الدهشة، فهي كما قال الشيخ إن جمال وجهها، يُذهل الحوامل، فيُسقِطن ما في بطونهن..! لسنا هنا بحاجة إلى تكرار أن تلك الأنثى ومثيلاتها، لم تكن بأي حال من الأحوال جزءاً من مؤسسة الزواج، ولا هي في محيط الشاعر الأُسري أو القبلي.. القرينة الدّالة على ذلك، هي ذلك السيف الذي يلوِّح به الشيخ.. فالشيخ لم يكن يحتاجه، إن لم يكن قد تهيأ بالفعل لغزوة أو نزوة، خارج ذلك الإطار.. هذا مشهد عشق.. هذا مجتمع يهوى الرقص.. مجتمع قديم ننتمي إليه نحن، ونتلمّس بعض فصوصه فينا.. فنحن كذلك، نحب الرقص، فلا تقوم احتفالاتنا، مهما اختلفت وتنوعت، إلا فوق بحّات الطبول..! فكيف يرى فقهاء عصرنا هذا، الذين يحدثوننا عن تطبيق الشريعة في عهد سلطنة الفونج، كيف يفسرون انغماس أهل ذلك العهد، بل أحد أشياخهم العِظام، في الرقص وأخذ الشبال؟.. ما حكم ذلك في شريعة الفقهاء؟.. إن كانت نصوص الفقه، أو عقوبات الشريعة، سارية في مجتمع سلطنة الفونج، لماذا لم يؤخذ بها لإدانة للشيخ الصوفي صاحب الربابة، لا سيما وأنه غريم تاريخي للفقهاء عبَدة النصوص؟!.. الحقيقة أنه، لا توجد أدنى إشارة تاريخية تقول إن فقهاء ذلك العهد قد تآذروا نحو تطبيق الحدود، وليست هناك أية وقائع تدل على أن السلطة أعلنت مثل هذا الادّعاء بإنفاذ «حكم الدين» في الناس.. هذا الادّعاء هو صناعة المتأخرين من فقهاء عصرنا نحن.. أكثر من ذلك، فإن نصوص الشريعة التي يدعون تطبيقها في ذلك الزمان، لم تكن بهذه الصياغة وبهذا الترتيب لدى نخبة السلطنة حينها، إذ أن تداول الحرف المكتوب لم يكن متاحاً كما هو الآن حتى يستطيع القاضي أو الفقيه الاطلاع على خريطة الأحكام، فضلاً عن أن الشيوخ في المسايد، كانوا يشرحون للحيران، وجوهاً من تفريعات الثقافة الدينية المتنوعة، ولم تكن بين التفريعات «مادة» اسمها تطبيق الشريعة، ولم يكن للفقهاء حيلة في تطبيق أيّة نصوص جاهزة، كانت الأحكام تقديرية وكان القضاء جزءاً من مجلس السلطان.. فإذا الوضع التاريخي قد حيّد الفقهاء، فإن ثقافتهم نفسها، تحفّزهم إلى تذوُّق براعة الشيخ إسماعيل، في هضم الآيات الأولى من سورة الحج: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ٭ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ»..! أنظر براعة صاحب الربابة، الذي استوحى نصّه من هذه الآيات، وكيف أنّه أجمل في كلمات بعض عادات الحرب والحب، التي ما زالت حية في الأفراح..! وهنا نتساءل مرّة أخرى: أين تطبيق الشريعة من كل هذا التدفق الحُر..؟!