لكي نفهم ما يدور داخل حوش الختمية، نتذكر أن حزبهم «الاتحادي الديمقراطي» هو نتاج تحالف أحزاب عديدة للمستنيرين تحت ظل سجادة المراغنة.. تمتّع السيد علي الميرغني بهالة من الغموض، وبذكاء فطري جعله يختار رعاية الحزب من موقعه كزعيم ديني، فكان يتدخل في السياسة بقدر لا يفسد عليه بريقه، فلا يضطر إلى «ملاواة» أهل السياسة، طالما أنهم في نهاية الأمر يستبطنون رغباته، فلا يفعلون إلا مبتغاه، وتلك هي نظرة و«إشارة» السيد قليل الكلام... تدهور أمر الختمية حينما جارى أبوهاشم منافسه ود المهدي، فغرق في معمعة السياسة عندما نُصِّب السيد أحمد الميرغني رئيساً لمجلس رأس الدولة.. دخل المراغنة عياناً الى حلبة السياسة بعد الانتفاضة، والسياسة ما فيها «يُمّة أرحميني»..! ورويداً رويداً بدأت هالة الغموض المحببة في الانقشاع، حتى تحوّل المراغنة إلى «ناس عاديين»، وفي مستوى القيادات المنافسة.. وتعمّقت الورطة أكثر بعد انقلاب الاخوان، حين «اغترب» أبو هاشم وارتضى هناك رئاسة التجمع الوطني الديمقراطي... ولو كان حوله أفذاذ مثل علي عبد الرحمن والفضلي وزروق، لنصحوه بغير ذلك.. لكنه آثر «طريق النضال» حتى أصبح مثل كل الذين لفظهم برنامج الصالح العام نحو هاتيك المنافي.. ! في تلك اللحظة التي دخل فيها أبو هاشم ذاك العمق، كان قد ترك يقين ما عنده، إلى ظن ما عند الناس.. ويقين ما عنده هو زعامته للطائفة، وهي كتلة كبيرة جداً، ولها امتداداتها في الداخل والخارج، فالختمية هم الأغلبية في الشمال والشرق والوسط، وكردفان، ولهم حضور في ارتريا، ومصر.. وقد كانت «إشارة سيدي» كافية لكي تصوّت زوايا القوم جميعها لمرشح الحزب.. لكن أبو هاشم اختار طريقه مائلاً بكتفه ناحية اليسار فأعطى الحق لناقديه، خاصة عندما تورّط أكثر وسعى الى توريث القيادة لأولاده.. كان قدر أبو هاشم خفيفاً عندما كان يكتفي بمناجزة أو تقليد غريمه، دقّة بدقّة، فلو أنه استعصم في دائرته لما دخل الى تلك الدائرة الجهنمية.. معروف أن لأحفاد المراغنة مدارسهم الخصوصية، ولهذا لم يكن مستغرباً أن يجد الحسن الثاني نفسه «طاشي شبكة» داخل القصر، مع أنه أولى بالقصر من كافة سكانه، السابقين واللاحقين، إذ أنه ببساطة «مُتربّي قصور»..! وكذلك كان حال أخاه جعفوري، الذي قدّم نفسه في حكومة الانقاذيين، ك «خريج روضة دار الحنان»..!، هناك تشابه بين الطائفتين، بيد أن للختمية بعض وقار لا يسمح لنسوة «آل البيت» أن يتمثلن أدواراً رياضية أو صحفية، أو غيرها من ضروب العمل، بأجر يُؤخذ من شباك الصرّاف في نهاية الشهر..! إن كان أبو هاشم قد تخيّر السياسة على القداسة، فقد كان من حق الناس أن يكيلوا له بمكيال فشل السياسة اليومي في السودان، خاصة عندما توغل أكثر بتوريث ابنه الحسن الثاني قبل تمرينه على العراك.. قبل أن يعرف ما هو أكثر من المطالبة باسترجاع الاملاك المُصادرة.. قبل أن يعرف، أنه انتدب الى القصر لخدمة «العلاقات العامة» بين الإنقاذ وأبيه..! ولا يخفي من تحركات الحسن الثاني أنه حاول، على نحوٍ ما، مستحضراً الغموض الذي بنى المراغنة مجدهم عليه، فقال أول ما قال أنه يستطيع أن يحل مشاكل السودان خلال مائة وثمانين يوماً زايد واحد..! لم يُدرك أبو الحسن، أن مسرح الرجل الواحد قد انتهى، ولذاك حوصر بنقاط النظام، لا من إعدائه الحقيقيين، وإنما من أهل الولاء الطائفي الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الدائرة ببحري.. فالشيخ أبو سبيب، وغالبية المجتمعين في أم دوم لعزل ابو هاشم من رئاسة الحزب، هم ختمية على السكين، وليسوا هم جناح «الوطني الاتحادي».. هؤلاء الذين اجتمعوا في أم دوم أفلحوا أم خابوا في اقصاء السيد فقد نجحوا بالتأكيد، في دق المسمار الأخير في نعش الكهنوت، إذ لو صبر الحسن الثاني قليلاً، أو لاذ بالصمت، لقدّموه إماماً كما تقدّم السيد علي بذاك القناع الكثيف، الذي لم يجعل سرّه متاحاً حتى لأقرب الأقربين..! نواصل..