استشرت السلفية الجهادية في بلدان الشرق، واندفعت بالمقابل قوى اليمين المسيحي في الغرب، فعادت الشعوبية الى العالم، تحمل وجهاً فكِها، تمثله في هذه اللّحظة شخصية المليونير ترامب،المرشح للرئاسة الأمريكية.عاد الزمان القهقري مع تطور وسائل الاتصال التي كان يفترض أن تقارب بين أولاد آدم، فإذا بها تودعهم في مستنقع الماضي الذي لم يتسنفد اعراضه، بدليل احتلال القبائل والقوميات لحيازات الايدلوجيا ، وبدليل التصارع العقدي.الردّة نحو الماضي لم تعد سراً بين البشر الذين لن يتحرروا من أسره إلا ببديل موضوعي. هذه الرِّدة عن التطور، تكبح النقاش حول القضايا الانسانية المهمة، وتعيق جهد العقلانين ضد المجانين. لقد أماط ترامب قناع الرأسمالية، مثلما فضحت داعش بؤر التراث الارهابية. تفوّق ترامب على بوش في جنوحه، ولكن بواقعية صِرفة ،فهو يقول، أن كل شيئ بثمن، و يهدد أصدقاء أمريكا قائلاً لهم، أن صداقة امريكا ليست بدون مقابل، وأن الدول التي تستقبل الدعم و الحماية الامريكية ، يتوجّب عليها أن تدفع ثمن ذلك.ترامب يؤكد أنه ،إذا ما فاز بالرئاسة ، فسيبني سوراً عازلاً على الحدود مع المكسيك، لكن هذا لا يعني،أن تتكفّل امريكا وحدها ببناءه، بل على المكسيك أيضاً أن تدفع. يقول ترامب بطلاقة، ما يقال بدبلوماسية،فأمريكا لا تقدّم شيئاً بالمجان، كما أنها لم تعد أرض الاحلام، ولا هي الفردوس الأرضي، بقدر ما هي ملتقى تجازب رهيب بين الامم والشعوب..! الفكاهة الجاذبة لدى ترامب،تنبع من شخصيته الضخمة كممثل لطبقة الاغنياء. ليس وحده بالطبع في هذا التمثيل، لكنه الأشهر بينهم في سباق الرئاسة.ترامب من الاغنياء، بيد أنه يؤلب عليهم..يؤلب عليهم الفقراء الذين يدغدغ مشاعرهم بالهاجس الأمني، وبرفع سقف العداء للمهاجرين، وبالتمني ضد الارهاب الذي يختزله في العرب والمسلمين. فكاهية ترامب تتجلى في منطقه التعميمي حين يتناول قضايا السياسة والاجتماع، وكأنه يقرأ مسودّة حقيقة علمية للعلم المادي التجريبي..هوالوجه الآخر من جورج بوش،لكنه أيضاً، إبن زماننا هذا زماننا الشرقي الذي ارتفع فيه صوت الهوس الديني فتصاعد على اثر ذلك معدّل الجنون في أمريكا واوربا. أنتج الارهاب الإسلامفوبيا بديلاً للشيوعية، فأصبح رجل مثل بوتين، معقد آمال الشعوبيين الجدد. فالرجل الذي لا يعبأ كثيراً بالتقاليد الديمقراطية، يحلم باعادة مجد القياصرة عن طريق المزاوجة بين دكتاتورية البلاشفة الضائعين، ومغارم القوميين، وسطوة الكنيسة..اليمين المتطرف يغزو العالم، شرقاً وغرباً ويستثمر الخوف والتخويف من الآخر،و لا توجد أنساق فكرية، تحدد مسار الأحداث في ظل هذه الفوضى الخلاقة.. العالم الحر كحاضنة للارهابيين، لم يعد بوسعه تقديم نموذج الحرية. لقد تناقص اعتداد مدائن الغرب الطليعية بالقيم اللبيرالية بحجة مكافحة الارهاب، و منذ اطروحة فوكاياما الذي قال بنهاية التاريخ تتكشف يوم بعد يوم ،معايب النظام الأوحد الذي شبّت في وجهه قوى أخرى، وظهرت تناقضات الرأسمالية المتوحشة، و تبدد حلم «الرفاه»،وسادت خيبة الامل. طفا اليمين على السطح العالم ، بما يمتلك وسائل الانتاج و الدعاية..غير أن العالم لا يمكن أن يُنظر إليه من زاوية اليسار التقليدي وتطلعات «الشغيلة» لامتلاك وسائل الانتاج..الشغيلة أنفسهم قد ذابوا، في ميكانيزم التطور، فلم يعُد لهم وجود في مرحلة ما بعد الثورة الصناعية، ما بعد الحداثة، وما بعد الديجتال..يستطيع الاتجاه اليميني الصاعِد ان يكسب بأدواته التي من بينها سطوة رأس المال..هذه السطوة التي تزيد جنون العالم، وتُفاقم تناقضاته..وبمثل ما برعت داعش في استخدام العالم الافتراضي،هاهو ترامب يستغل وسائل الاعلام الجماهيري، ليصبح أشهر المرشحين للرئاسة،رغم تضاؤل فرصته بالفوز..! كل شيئ له ثمن..قد تتضاءل فرصة فوز ترامب، إن لم تقع عملية إرهابية كارثية تقلِب الموازين..!