تحية إجلال وإكبار.. وكل عام وأنتم وصحيفتنا الغراء والشعب السوداني بألف خير.. نسبة لظروف عطلة العيد لم أطالع مناشدتكم القيّمة والصائبة حول دعوتكم لتكوين اتحاد سياسي مع الشقيقة مصر، أو إحداث وحدة بين السودان ومصر، لكن قرأت ردود الأفعال التي انهالت عليكم من كبار القادة والسياسيين وأصحاب الآراء الثاقبة والرؤى الصائبة حول علاقة السودان بمصر وأهمية مصر بالنسبة للسودان سياسياً واستراتيجياً واقتصادياً، خصوصاً في هذا التوقيت الذي لا يخفى على أحد أهميته في مستقبل السودان. حقيقة هذا الموضوع لامس عمق اهتمامي وتوجهاتي، وأثار حفيظتي لأكتب بعض التعليقات بصفتي أكاديمي أجريت بحثاً علمياً بعنوان (التكامل بين السودان ومصر بالتركيز على المديرية الشمالية ومحافظة أسوان1969م- 1985م)، وذلك لنيل درجة الماجستير في العلاقات الدولية، وعليه ألخص تعليقاتي في النقاط التالية: ü كل الكتاب والمفكرين وقدامى الدبلوماسيين الذين عملوا كسفراء للسودان في مصر، والذين كتبوا عن العلاقات السودانية المصرية، وصفوا هذه العلاقات بأنها (أزلية) و(حتمية)، بمعنى أنها لا يمكن ولا يستقيم إلا أن تكون علاقات تبادل مصالح وحسن جوار، وذلك لضمان استقرار كل منهما نسبة للارتباط العضوي الوثيق وأن كلتا الدولتين تمثل العمق الإستراتيجي للأخرى، وأن مصالح أي منهما ترتبط بالأخرى، فأنا أعجب عندما أرى الدبلوماسية السودانية وصناع السياسة الخارجية في السودان يتعاملون مع مصر على أنها دولة جوار فقط، وكل النشاط الدبلوماسي يتم على الصعيد الرسمي عبر السفارات والقنصليات كما هو متبع بين أية دولتين في العالم، وحتى في هذا الإطار لا توجد الآن أية اتفاقية بين الدولتين تنبيء بعلاقة ودية أو متبادلة، حتى اتفاقية الحريات الأربع (التي يكثر الحديث عنها هذه الأيام مع الدولة المحتملة بجنوب السودان)، تعتبر بها الكثير من العقبات، بل هي غير مفعلة مع مصر فلا أجد حرجاً ولا أكون مبالغاً إذا قلت إن حلحة معظم مشاكل السودان ومعالجة قضاياه الماثلة الآن، بيد مصر، ولكن إذا أحسنت إدارة هذا الملف. ü الحديث حول الاتحاد مع مصر ليس موضوعاً جديداً، ويرجع تاريخه إلى حقبة الاستقلال وقبل ذلك كان السودان ومصر إقليماً واحداً، لكن عند الاستقلال انقسمت الأحزاب السياسية السودانية إلى قسمين، وكان ذلك أول انشقاق في صفوف مؤتمر الخريجين، أحزاب اتحادية تدعو إلى الوحدة مع مصر وتلك بقيادة الحزب الوطني الديمقراطي، وأحزاب استقلالية تدعو إلى الاستقلال عن مصر وبناء دولة سودانية مستقلة وهذه بقيادة حزب الأمة، وهذا الرأي الأخير هو الذي انتصر ونال السودان استقلاله في 1956م، لكنه لم ينعزل يوماً أو يستقل عما يجري في مصر. ولم يخفِ يوماً الزعماء المصريون اهتمامهم بالشأن السوداني وتأثيرهم فيه ابتداءً من الملك فاروق ومحمد نجيب السوداني الأصل المسمى عليه الشارع المعروف في الخرطوم، وكذلك الملك فاروق مسمى باسمه المسجد المعروف في الخرطوم، أما الزعيم الخالد عبدالناصر صاحب الدعوة إلى الوحدة العربية، لا يحتاج إلى ذكر إنجازاته. ü الملاحظ أن كل الأنظمة العسكرية التي تعاقبت على السودان، كانت ذات صلة بمصر ابتداءً من فترة حكم الفريق (عبود) إلى يومنا هذا، ولن تجد اليوم واحداً من كبار ضباط القوات المسلحة لم يتلقَ تدريباً في مصر.. أو لم يحضر دورة تدريبية في أي من المجالات العسكرية، وهذا يدل على تقدم مصر في الميدان العسكري، الشيء الذي يجب أن نستفيد منه ونحن في أمس الحاجة إلى التقدم العسكري. لكن الرئيس الراحل جعفر نميري وصل بالعلاقات السودانية المصرية أعلى مستوياتها، ونال فضل أول مبادرة بإنشاء برنامج مشترك من شأنه أن يحقق كل تطلعات الشعبين، ويمكن أن يحقق وحدة حقيقية تقوم على تبادل واستغلال الموارد بواسطة أجهزة رسمية يترأسها رئيسا الدولتين، وتتشكل من خبراء ومسؤولين من الجانبين، بالإضافة إلى القطاع الخاص من الجانبين، وذلك هو ما عرف ببرنامج التكامل بين مصر والسودان والذي أجريت حوله البحث المذكور سابقاً، ففي فبراير 1974م وقّع الرئيس السوداني جعفر نميري والرئيس المصري محمد أنور السادات ميثاقاً اطلقوا عليه «منهاج العمل السياسي والتكامل الاقتصادي»، وتعاهدوا على مد جسور التواصل والتعاون والتنسيق بين الأجهزة والكيانات في الجانبيين، فسياسياً تم تشكيل لجنة مشتركة للتنسيق بين أجهزة الاتحاد الإشتراكي في الدولتين، وطرح برامج للحوار وتدريب الكوادر وتوحيد السياسات، عسكرياً أنشأ الرئيسان مجلس الدفاع المشترك بناءً على ميثاق جامعة الدول العربية، ومن هنا جاءت برامج التدريب والتسليح التي توجد آثارها اليوم لدى قدامى العسكريين السودانيين، اقتصادياً أنشئت مؤسسات وهيئات مشترك وبرأس مال مشترك يوجد بعضها حتى اليوم، بل ومقر أجهزة ومؤسسات التكامل قائمة حتى اليوم لكنها بالطبع لا تعمل. الجدير بالذكر أن أية علاقة بين دولتين لا تقتصر على الدولتين فقط، وإنما تتأثر ببعض اللاعبين في المحيط الدولي، خصوصاً ما يعرف بالدول العظمى أو حاملة ميزان القوى، فإنها تسعى إلى تفكيك أي اتحاد من شأنه أن يشكل كياناً قوياً يستطيع أن يؤثر في السياسة الدولية، لذلك دائماً ما تنتهي كل محاولات الاتحاد أو التكامل أو التعاون بين السودان ومصر إلى الفشل. عموماً إن برنامج التكامل بين السودان ومصر كان رقماً ناصعاً في صفحة إنجازات ثورة مايو، وهو أحد الأسباب التي أدت إلى صمود النظام ستة عشر عاماً دون زعزعة أو أزمات، ما عدا الأزمات ذات الصلة بالوضع الاقتصادي، حتى المحاولات الانقلابية التي أوشكت على النجاح، سرعان ما أجهضت بفضل العوامل الخارجية، وذلك لأن الرئيس الراحل نميري صاحب الشخصية الكاريزمية كان يقود السياسة الخارجية بنفسه. ü الآن الوضع يختلف عن ذي قبل، فالسودان على وشك أن يفقد شطره الجنوبي بسبب ذات القوى الخارجية التي غرست هذه البذرة منذ الاستقلال، والحركة الشعبية تتجه جنوباً صوب يوغندا وكينيا، ليصبح شمال السودان معزولاً ليس أمامه إلا التوجه بكلياته صوب مصر، وبالتأكيد فإن الأخير لا تستطيع الاستغناء عن السودان حفاظاً على مصالحها المتمثلة في مياه النيل والأراضي الزراعية والعمق الإستراتيجي وغيره، لذلك قبل كل شيء يجب أن ندعو إلى إزالة كل الحواجز والقيود على حركة البضائع والأشخاص ورؤوس الأموال بين البلدين، وإقامة منطقة تجارة حرة في منطقة حلفا القديمة عند الحدود، وفتح البلاد أمام الاستثمار المصري، بل وتشجيعه بامتيازات وحوافز خصوصاً الاستثمار الزراعي، ودفع مستوى التبادل التجاري وتخفيض التعريفات الجمركية إلى درجة الإعفاء.. أو فتح الباب للتعاون والتنسيق بين كل المؤسسات والكيانات الرسمية والشعبية. ü مسألة الوحدة والتكتل أصبحت هي السمة الغالبة على مستوى العالم، حتى بين دول لا ترتبط ببعضها جغرافياً ولا تربطها عوامل اللغة أو الدين أو العرق أو غيره، فنجد مثلاً أوربا باختلاف لغاتها وأجناسها يجمعها الاتحاد الأوربي تحت سوق واحد، وعملة واحدة (اليورو)، وبرلمان واحد،ومحكمة واحدة للفصل في شؤون الاتحاد، كذلك دول الخليج (مجلس التعاون الخليجي)، بالإضافة إلى الاتحادات والتحالفات العسكرية والتكتلات الاقتصادية المعروفة في شتى أنحاء العالم. ü لكي تتحقق الوحدة المنشودة بين السودان ومصر، لابد من توفر بعض الشروط، أهمها الإرادة السياسية، وهذه يمتلكها السودان إلى حد كبير، أما مصر فإذا وضعت مسألة الوحدة في ميزان حساب الأرباح والخسائر، حتماً ستفضي بها النتيجة إلى اختيار الوحدة، الشرط الثاني لتحقيق الوحدة هو التوجهات إلى اقتناع صناع القرارات في الدولتين بهذا الأمر، وهذه تحتاج إلى تكثيف الحملات الإعلامية وورش العمل والمؤتمرات لمناقشة فوائد ومبررات الوحدة، وكذلك كسب تأييد الرأي العام وإضفاء البعد الشعبي. ü أخيراً نضم صوتنا بشدة إلى هذا المنبر الحر، ونتمنى أن يفضي إلى مؤسسة مشتركة تقرِّب البعيد.. وتقصر المسافات بين السودان ومصر، ونؤيد بشدة مبدأ إنشاء اتحاد، لكنه اتحاد تنفيذي مشترك في شكل هيكل رسمي على شاكلة مجلس التكامل وصندوق التكامل، وبأسلوب أكثر إيجازاً وفعالية. وبالله التوفيق أكاديمي هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته n