الخليفة عبد الوهاب الكباشي رجل متعدد الأبعاد، خرج بدور أهل الصوفية من حدود الحوار الديني إلى رحابة الحوار الوطني .. وخرج بِسِعَة منهاج التصوف من أعمدة الخلاوي وجدران المسيد إلى سقوف الحريات وقضايا معاش الناس وصناعة السلام .. وأخرج حافظ القرآن من إطار مدارس العلوم الشرعية إلى مدراج التخصصات الأكاديمية، بتأسيس مدارس «تاج الحافظين» .. حفظ العهد، حافظ على الإرث، جدد الأفكار، حدَّث الرؤى، وطوَّر الوسائل .. اشتهر بوساطته في قضايا الدم التي تنتهي في مجلسه دوماً إلى الصلح .. ومؤخراً استبشرت عشرات العائلات بعودة أبنائها بعد نجاح وساطته لدى د. جبريل إبراهيم بالموافقة على إطلاق سراح أسرى الجيش السوداني لدى حركة العدل والمساواة .. في مسيد الشيخ إبراهيم الكباشي .. تَحُفُّنَا بركات خليفته الشيخ عبد الوهاب الكباشي كان لنا هذا الحوار: حاورته: منى أبو زيد عطفاً على حديثنا عن سلوك بعض الحيران الذي يمتد إلى توبيخ وتعنيف النساء أحياناً (هنالك حيران يضربون النساء) وهذا يؤخد على بعض الشيوخ . لاحظت أن الأمر في مسيد الشيخ الكباشي مختلف فلا دور إشرافي ظاهر للحيران، ومعظم الزوار متأدبون بأدب المجلس ..كيف تحقق لكم ذلك؟ - المرأة مكرمة من الدين وأعطاها نصيبها وحظها من كل شيء، ونحن نستمع إلى شكواها ونسمع رأيها، وفي بعض الأحيان يأتينا أناس أصحاب أغراض تستوجب الوقوف معهم، والمثل يقول (صاحب الحاجة أرعن)، وأحياناً يتخطى صاحب الحاجة الناس، وأحياناً تتخطى بعض النساء الرجال، بسبب حاجتها الملحة إلى الحديث مع الشيخ، أو الدعاء لها لتفريج كربة، لكننا في مسيد الشيخ الكباشي لا نؤاخذ النساء أبداً، بل نهتم بهن ونكرمهن ونعطيهن مكانتهن ونوفر لهن حظهن في المقابلة، أما الحيران فنحن نعطيهم توجيهات واضحة بأن أي شخص يأتي إلينا رجلاً كان أو امرأة لا بد أن يتم احترامه وإكرامه وأن يسهل أمر لقائه بنا. * لاحظت أن الزوار والمريدين في مسيد الشيخ الكباشي معظمهم من النخب .. فيهم أهل علم وثقافة وسياسية وإعلام .. فهل الصوفية درجات .. وهل يوجد بعد طبقي في التعامل مع أنواع القضايا والحاجات..؟! - الصوفية ليسوا طبقات، بل هي جامعة لكل الناس والمسائل، وعندنا يتعدد الأشخاص وتتعدد الأشياء، وكل طبقات المجتمع تجدينها في أماكن أهل التصوف، ولا يوجد بعد طبقي في التعامل مع أنواع القضايا والحاجات، ولكن هنالك تراتبية في المسيد تفرضها طبيعة الموقف، أحياناً يأتي شخص لغرض علاجي ونكون مشغولين بمسألة صلح أو قضية دم، فنحيل الشخص صاحب الغرض العلاجي إلى آخرين حتى لا نشق عليه بالانتظار. * هل الصوفية تخصصات .. اشتهر بعض الشيوخ بعلاج المجانين وبعضهم الآخر بعلاج العقم وتأخر الإنجاب وهكذا .. وماذا عن توارث الأسرار ..؟! - لا يوجد شيخ من أهل التصوف متخصص في شأن بعينه، بل المسألة في النهاية أمر دعاء وسؤال وإجابة (رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره)، وأن تكون عبداً مستجاب الدعوة فهذه مسألة لها شروطها، لذلك اشتهر آباؤنا الصالحون الكرام - الذين يقدح فيهم البعض الآن – بأنهم أهل إجابة وأهل عطاء، ذكروا الله وعبدوا الله وانقطعوا لله في أوقات خلوتهم، وقد كان أبونا الشيخ إبراهيم الكباشي رجلاً مستجاب الدعوة في كل شيء، وكان رجلاً مستجاب الدعوة في مسألة الذرية، وقد سأله رجل قائلاً (إنت بتدي الجنا)؟! ..فأجابه أبونا الشيخ بأن الفاعل هو الله يستجيب دعائي، ولأني أحسن الظن بالله ما سألته شيئاً إلا استجاب دعائي، وهذه من أقوى كمائن الإيمان، أن تحسن الظن بالله، وقد سأل بعضهم أبانا الشيخ الكباشي (إذا في زول ربنا سبحانه وتعالى ما كتب ليه ذرية وجاءك سائلاً)؟! .. فأجابهم (الربنا ماكاتب ليه ذرية مابييسر ليه الوصول إلينا)، وهذا إكرام من الله سبحانه وتعالى أن هذا الأمر باقٍ حتى اليوم، وهي الكرامات غير منفية، بل هي موجودة .. الكرامة هي أمر خارق للعادة يجريها الله على يد نبي أو عبد صالح أو مسلم يكرمه بذلك وفي النهاية الفاعل هو الله. (ولا يزال حتى الآن عندنا أوفاق محددة وأسماء محددة، مثالاً على ذلك أبناء الشيخ أبو شمال هم حواريين الشيخ إبراهيم الكباشي الذين اختصهم بهذا الاسم وهذا السر فهم يحملون العقرب ويحملون الحية دون أن يصيبهم منها شيء). وهذه نعتبرها كرامة حية مستمرة حتى اليوم، إضافة إلى مسألة الذرية . * كيف كانت زيارة السفير الأمريكي لمسيد الشيخ الكباشي ..؟! - السفير الأمريكي اهتم كثيراً بالتصوف زار أماكن مختلفة، وقد زارنا في قرية الكباشي وكانت زيارة متميزة، وقد سألنا عن دورنا في تحفيظ القرآن وتعليم أبناء المسلمين، وحدثناه عن استنكارنا لما تقوم به أمريكا تجاه السودان.. وأخبرنا عن قناعته بأن التصوف هو الرائد والقائد في السودان، وهو الذي يجمع الناس. حدثنا عن مبادرتكم لإطلاق سراح أسرى حركة العدل والمساواة ورسالتكم إلى د. جبريل إبراهيم رئيس الحركة، وفحوى رده على رسالتكم ..؟! - جلس معي بعض الإخوان وهاتفني البعض الآخر وتفاكرنا في هذا الأمر. * هل كان منهم من ينتمي إلى الحكومة أو يمثلها ..؟! - لا، الذين جلسوا معي لم يكونوا يمثلون الحكومة، تحدثنا عن الدور الذي يجب أن نقوم به لإطلاق هؤلاء الأسرى الذين طال بقاؤهم هناك، بعض الذين كانوا في معيتي اتصلوا بالدكتور جبريل إبراهيم، فأخبرهم بأنه لم يتلق أي مبادرة أو مناشدة سابقة في هذا الشأن، فأبديت موافقتي على تولي زمام المبادرة، وأنني لا أمانع في لقائه بشأن هؤلاء الأسرى، حاولنا الاتصال عبر الهاتف ولم نتمكن من ذلك، فكتبت رسالة والتزم هؤلاء الإخوان بإيصالها للدكتور جبريل، وقد حرصت على كتابتها بخط اليد وليس طباعة حتى تأخذ المسألة بعداً حقيقياً وصادقاً. وكانت المناشدة باسم طريقة أبونا الشيخ إبراهيم الكباشي، وباسم أهل التصوف بصفة عامة، وقد كانت استجابة د.جبريل سريعة (كتبت الرسالة في يوم 10/8/2016م وفي نفس الشهر أرسل رده الأول بالموافقة) وكان رده جميلاً ومحترماً. بعد ذلك اتصل بي بعض الإخوان الذين قاموا بمناشدات أخرى كان رد د.جبريل عليها إن أي تنسيق سيتم عبر الشيخ عبد الوهاب الكباشي، وقد منحتهم التفويض الكامل قبل ذهابي إلى الحج في أي أمر يتعلق بالترتيبات فيما يلي شأن الأسرى، ونحمد الله على تمام هذا الأمر. وقد تسلمت قبل أيام خطاباً آخر من د. جبريل يتضمن صدور قرار استجابة الحركة لمناشدتنا ويؤكد شروع الحركة فوراً في الاتصال بجهات الاختصاص وعمل الترتيبات اللازمة لنقل هؤلاء الأسرى إلى الخرطوم في أسرع وقت. ونحمد الله على ذلك. * هل طلب د.جبريل إطلاق سراح أسرى الحركة لدى الحكومة مقابل ذلك ..؟! - لم يكن هذا الأمر ضمن الرد على المناشدة، ولكن الحكومة بدورها فعلت، حينما أعلن السيد رئيس الجمهورية أثناء زيارته للفاشر - بحضور أمير دولة قطر ورئيس جمهورية تشاد - عن إطلاق سراح أسرى حركة العدل والمساواة من الأطفال، وجاهزية الحكومة لتسليم هؤلاء الأسرى لأسرهم، وبدوري كنت قد أخطرت إخواننا في الحكومة بأمر المناشدة التي تمت لإطلاق سراح أولئك الأسرى. * ماذا عن دوركم في الحوار المجتمعي وماذا عن زيارة أمريكا ..؟! - زيارة أمريكا كانت فكرة بدأت في الخرطوم، تم لقاء مشترك بين رجالات الطرق الصوفية وقيادات القبائل الأهلية بدعوة من أخينا عصام الشيخ، وكان السفير الأمريكي حاضراً، وكان الأمين العام لمجلس الصداقة الشعبية حاضراً، وتكلمنا عن دور المجتمع برموزه المختلفة، بعدها مباشرة بدأت الزيارات، وأول زيارة كانت لقيادات الإدارة الأهلية، ثم كانت بعدها زيارة أهل الطرق الصوفية، وهناك عكسنا موقف قطاعات المجتمع السوداني من ما تقوم به أمريكا تجاه السودان، وقلنا كلاماً صريحاً جداً حول قيودهم على بعض دول العالم الثالث ومنها السودان، والتي كانت سبباً رئيساً في ظاهرة الإرهاب والتطرف الديني. وحرصنا أيضاً على أن نعكس الصورة الحقيقية للإسلام. وقد سألنا البعض هناك عن موقف الدين الإسلامي من المرأة، فشرحنا لهم أن الإسلام هو أكثر دين كرم المرأة، والشواهد كثيرة الحديث (خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء)، والحديث (من أحق الناس بحسن صحابتي) وتكرار ذكر الأم ثلاث مرات .. إلخ .. * كلما ذكر الصلح في قضايا الدم ذكر الخليفة عبد الوهاب الكباشي ..؟! - من أقدار الله سبحانه وتعالى أن يكون لبيت الكباشي أو للمتصوفة كلهم على وجه العموم كلمة مسموعة في خلافات القبائل وقضايا الدم، ولعل السبب يرجع إلى ارتباط أهل التصوف بالمجتمع وقوة علاقتهم بالناس، الأمر الذي يجعلهم مكرمين عند الناس، وقد ورثنا هذا الأمر من آبائنا وأجدادانا، فبيت الكباشي له رمزيته ومكانته وتقديره عند الناس. وأحياناً يقصدنا أناس لا نعرفهم، وقد سافرت مرة إلى السعودية لقضية قتل وقعت في مدينة الرياض، والحمد لله لم نتدخل في قضية إلا ووجدنا استجابة، وقد درجنا على أن نستمع إلى كل الأطراف، وأن نسمع الموافقة من أولياء الدم، والأهم من ذلك هو أننا نحرص على إيفاء حقوق الناس، ونستعين في ذلك بقيادات القبائل وكبارات الأسر، ونتحرى عرف الناس في كل منطقة، وأحياناً نرتب لصلح يتجاوز الدية بأضعافها. والمجتمع السوداني لا يعفو لأجل المال، ولم يحدث أن طرقنا باب شخص عفا عن حقه في قضية الدم لأجل المال، هو يعفو لوجه الله سبحانه وتعالى.. لكننا نشترط على الشخص الذي يعفي في أن تؤول إلينا ترتيبات ما بعد الصلح، لأن البعض يصرون على رفض المال، لذلك نشترط عليهم الموافقة على أي قرار. * ماذا عن ترتيبات الدية ..؟! - نحن لا نسميها دية، وأحياناً كنا نتجاوز الدية بقيمتها القديمة إلى مئات الآلاف، وحتى الدية بقيمتها المعدلة حديثاً في القانون نتجاوزها أحياناً بكثير، وأحياناً نمرحل الدفع، بتقسيط القيمة، والحكاية في النهاية جبر ضرر يكو بالتراضي بين الناس، ونحن في هذاالمقام نشيد بدور إخواننا القضاة، فلم يحدث قط أن تم إصلاح ذات بين في أي قضية دم تم فيها العفو ورفعنا أمرها إليهم إلا وقاموا بتنفيذ كل مايتعلق بالصلح. * جدل كثيف يديره المتشددو مؤخراً مؤخراً عن الكرامات والعلاج بالرقية والمحاية ..ما رأيك ..؟! - (خذ من القرآن ماشئت لما شئت) فكل شيء موجود في القرآن، كنت في مكة فدخلت مكتبة وجدت فيها كتاب، فيه تحقيق قوي عن كتابة الآيات ومحاية الشراب والاغتسال بها، وفيه تأصيل ديني للمسألة، في الوقت الذي يظن فيه بعض المتشددين أن هذا النوع من التداوي بدعة وضلالة، وفي الأثر أن صحابة مروا بقوم فيهم رجل لدغته حية، فسألهم القوم أفيكم رجل مصلح، فتلا أحد هؤلاء الصحابة رقية على الرجل، وعوفي المصاب، فأعطاهم القوم بعض الشياه وقالوا هذا أجر مافعلتموه، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبروه بالحادثة، فقال لهم خذوه واضربوا لي سهماً معكم، وهذا خير دليل على وجود تأصيل شرعي لكل ذلك. * في إطار التحقيق والتأصيل .. سمعت عن كتاب للشيخ إبراهيم الكباشي حققه طبيب سعودي ونشر مؤلفاً قيماً حول ذلك .. هل التقيتم مؤلف الكتاب ..؟! - لعلك تقدصين كتاب (إرشاد المريد) الذي تحدث فيه أبونا الشيخ إبراهيم الكباشي عن علاقة الشيخ بالمريدين وعلاقة المريدين والحواريين بشيخهم، وهذه جزيئة مفقوده الآن، هنالك باحث سعودي اسمه (محمد شاه الوزاني)، وهو طبيب نفسي، زارنا في المسيد قبل بضع سنوات، كان قد إطلع على الكتاب، وقد زارنا خصيصاً لكي يستأذن في التحقيق حول ماورد في الكتاب، فوافقنا على ذلك، وعاد الرجل إلى بلده وعكف على تحقيق الكتاب وأمن فيه على حديث الشيخ إبراهيم الكباشي ونشره في كتاب أسماه (إرشاد المريد في ثوبه الجديد). * ماذا عن ما يقال عن ذلك التوتر الأزلي في العلاقة بين شيوخ الصوفية والأطباء؟! - نحن نذهب إلى الطبيب ونتعاطى أوامره، وعلاقتنا بالأطباء متميزة وجيدة، وبيننا وبين الطبيب النفسي علاقة خاصة مباشرة، في كثير من الحالات نحول المرضى إلى الأطباء ويتعاطون العلاج ويتم الشفاء. هل يحدث العكس أحياناً ..؟! نعم يحدث العكس أحياناً. * الملاحظ أن علاقتكم بكل قطاعات المجتمع طيبة ..؟! - علاقتنا بكل قطاعات المجتمع طيبة ودرونا مربوط بكل شئون المجتمع على المستوى التعليمي والخدمي والصحي، نسير في ذلك على نهج أبينا الشيخ الكباشي، ولا تتم بعض المشاريع إلا عبرنا، وهي علاقة مجتمعية وتواصل مع كل الناس، نصلهم في أفراحهم وأتراحهم، حتى إخواننا أنصار السنة علاقتنا معهم جيدة نصلهم في المركز العام، لكن يبقى هنالك متشددون وأصحاب غلظة على أهل التصوف، وهذا من باب الحسد ليس إلا، لذلك نناشد المسئولين بضبط الخطاب الدعوي حتى لا تحدث فتنة دينية، ويبقى المسلمون معتصمون بالوسطية، وبهذه المناسبة – وفي إطار الوسطية - قدم المجلس الأعلى للدعوة بولاية الخرطوم دعوة إلى إمام الحرم المكي (الشيخ خالد بن علي الغامدي) لزيارة السودان، ونقوم حالياً على أمر إحدى لجان هذا البرنامج الذي يبدأ – إن شاء الله - يوم 20 من شهر أكتوبر، ويستمر حتى يوم 28 من الشهر الجاري. * نسألكم صالح الدعوات لهذا البلد وأهله ..؟! - نسال الله سبحانه وتعالى أن يجمع كلمة أهل البلد ويوحدهم، وأن يفضي العمل السياسي الذي يقوم به إخواننا إلى الحوار الوطني المنشود الذي يحقق وحدة أهل السودان والمحافظة على التراث القوي الذي يربطهم، وتكون هذه البلد آمنة مطمئة، ونناشد أهل التصوف بتوحيد الكلمة وأن يبقوا مترابطين وأن يقودوا هذا المجتمع قيادة رشيدة في ظل الدعوة إلى الله. * ماذا عن أهل الصحافة والإعلام .. (أدينا الفاتحة) ..؟! (يضحك) ..نسأل الله أن يعين أهل الصحافة وأن يأخذ بأيديهم لكي يأخذوا وينقلوا ما يوحد رؤى الناس ويجمع كلمتهم ..(الفاتحة) لك ولأهلك، ولأهل صحيفة آخر لحظة، ولأهل الإعلام جميعاً.