كثيرون لم يشهدوا أيام عبود، أعني الفريق الركن المهندس إبراهيم عبود -رئيس السودان- ورئيس مجلس الحكم «المجلس الأعلى للقوات المسلحة»، الذي تولى السلطة السيادية وقيادة الدولة طوال الفترة من (1958-1964) ممثلاً «ثورة» 17 نوفمبر 1958 والتي تسلم فيها الفريق عبود السلطة من رئيس الوزراء المنتخب عبد الله بك خليل «السياسي» الأميرالاي البيك المهندس -الأمين العام لحزب الأمة آنذاك- وقد وجد الانقلاب مباركة السيدين وتأييد القوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي وقطاع واسع من طوائف الشعب الذي سئم المناورات السياسية والمكايدات الحزبية رغم الفترة القصيرة للاستقلال«حوالي 23 شهراً» وللتجربة البرلمانية، منذ افتتاح أول برلمان في أول مارس 1954- والذي صادف حوادث أول مارس الدموية المعروفة. ü نظام عبود رغماً عن نزاهته وعفة يده وخلو صفحته من الفساد -وعلى رأس ملوك النزاهة الفريق إبراهيم عبود الذي خرج من السلطة وهو لا يملك مليماً واحداً ولا بيتاً يأوي أسرته كبيرة العدد- وكذلك وزراؤه ذوو الرتب العظيمة الذين لا يملك أغلبهم منزلاً ولا قطعة أرض.. بما في ذلك الوزير المسؤول عن تخطيط وتوزيع الأراضي اللواء أحمد مجذوب البحاري الذي وزّع «الثورات» على آلاف المواطنين ولم يخص أسرته وذوي قرباه ولا بقطعة واحدة.. ü على الرغم من هذه الأمانة المتناهية، وعلى الرغم من أن نظام عبود قاد التنمية بصورة غير مسبوقة فأنشأ المصانع وأقام المناطق الصناعية وامتدت إنجازاته من بابنوسة إلى كسلا ومروي وخشم القربة -وبالرغم من أنه جاءنا بصداقة الشعوب.. كل الشعوب من الشرق والغرب والشمال والجنوب.. بل اجتمع العالم حول مودة الخرطوم واحترامها.. ورغم مدِّه الخطوط الحديدية إلى الغرب بعد بابنوسة ومداخل الجنوب لتمتد فيما بعد إلى بحر الغزال.. ورغم إنشائه الخطوط البحرية.. وفي عهده اكتملت أول قفزة عمرانية «العمارات» امتداد الدرجتين الأولى والثانية.. مما يحتاج إلى كتاب ضخم لإنجازات عبود. ولكن بالرغم من ذلك سقط النظام لافتقاره إلى الحريات ولإسكاته الصوت الآخر ولاعتماده على القوة وحدها «قوى الأمن» بصورها المختلفة ولمصادرته حريات الرأي والفكر والتنظيم.. وحله الأحزاب القوية العريقة الراسخة التي قادت الأمة وصنعت الاستقلال وحررت البلاد.. ولأنه وضع الجميع قيد الاعتقال بما في ذلك البيه الذي سلّمه السلطة.. سقط النظام رغم التنمية ورغم النزاهة ورغم رغد العيش بصورة غير مسبوقة.. سقط النظام لسبب بسيط أنه صادر الحريات وكمّم الأفواه واحتكر السلطة واعتمد على جهاز الأمن الذي أطلق الطلقة الأولى التي أسقطت النظام، وهي الطلقة التي أسقطت أول شهيد للثورة أحمد القرشي طه.