الخرطوم وأنقرة .. من ذاكرة التاريخ إلى الأمن والتنمية    مدرب المنتخب السوداني : مباراة غينيا ستكون صعبة    لميس الحديدي في منشورها الأول بعد الطلاق من عمرو أديب    شاهد بالفيديو.. مشجعة المنتخب السوداني الحسناء التي اشتهرت بالبكاء في المدرجات تعود لأرض الوطن وتوثق لجمال الطبيعة بسنكات    شاهد بالفيديو.. "تعب الداية وخسارة السماية" حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي ترد على معلق سخر من إطلالتها قائلاً: "لونك ضرب"    تحولا لحالة يرثى لها.. شاهد أحدث صور لملاعب القمة السودانية الهلال والمريخ "الجوهرة" و "القلعة الحمراء"    الجيش في السودان يصدر بيانًا حول استهداف"حامية"    الجيش السوداني يسترد "الدانكوج" واتهامات للدعم السريع بارتكاب جرائم عرقية    مطار الخرطوم يعود للعمل 5 يناير القادم    رقم تاريخي وآخر سلبي لياسين بونو في مباراة المغرب ومالي    شرطة ولاية القضارف تضع حدًا للنشاط الإجرامي لعصابة نهب بالمشروعات الزراعية    استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وراء تزايد تشتت انتباه المراهقين    بدء أعمال ورشة مساحة الإعلام في ظل الحكومة المدنية    ما بين (سبَاكة) فلوران و(خَرمجَة) ربجيكامب    ضربات سلاح الجو السعودي لتجمعات المليشيات الإماراتية بحضرموت أيقظت عدداً من رموز السياسة والمجتمع في العالم    قرارات لجنة الانضباط برئاسة مهدي البحر في أحداث مباراة الناصر الخرطوم والصفاء الابيض    غوتيريش يدعم مبادرة حكومة السودان للسلام ويدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    استقبال رسمي وشعبي لبعثة القوز بدنقلا    نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    قبور مرعبة وخطيرة!    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سقوط الحكم العسكري الأول- أكتوبر 1964م: بقلم: فيليبا مغربي .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
نشر في سودانيل يوم 26 - 11 - 2011


سقوط الحكم العسكري الأول- أكتوبر 1964م
فيليبا مغربي
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: جاءت فيليبا مغربي (ني كاسيل) إلى السودان في عام 1933م للعمل في "مصلحة الخدمات الصحية السودانية" كممرضة. التقت في الخرطوم بالسيد/ عبد الفتاح مغربي (الذي كان يعمل حينها محاضرا بكلية غوردون) وتزوجته. اختير عبد الفتاح مغربي بعد الاستقلال ليكون عضوا في أول مجلس للسيادة (مع سرسيو إيرو والدرديري محمد عثمان وأحمد محمد صالح وأحمد محمد يسن) حتى قيام انقلاب عبود في 17 /11/1958م.
كنت قد ترجمت ونشرت قبل سنوات ما كتبته السيدة فيليبا مغربي من مذكرات بعنوان "أيامي في الجريف" عن حياتها – وزوجها- في بيتها الجديد في ريف الخرطوم في ثلاثينات القرن الماضي. وهنا نترجم – بتصرف شديد- بعض مشاهداتها وملاحظتها عن الأحداث التي صاحبت "ثورة أكتوبر" التي أسقطت الحكم العسكري الأول في عام 1964م. نشرت هذه الملاحظات في مجلة "دراسات السودان" العدد 24 بتاريخ يونيو 2000م. وهي مقتطف من مذكرات السيدة فيليبا عن 51 عاما في السودان (1933 – 1984م) عنوانها "نمط متنوع "، وهي محفوظة في أرشيف السودان بجامعة دارام في بريطانيا.
لعله من المفيد معرفة آراء وملاحظات غير السودانيين عن تلك الثورة الفريدة التي سبقت ما يسمى بالربيع العربي بنحو نصف قرن! نذكر هنا (مع الفارق الضخم بالطبع) الكتاب الذي ألفه بروفيسور القانون الأمريكي كليف ثومسون عن ثورة أكتوبر (والذي ترجم، ونشر ك"كتاب في جريدة" بصحيفة "الأحداث" قبل عامين أو نحوها). كم من السودانيين الذين عاصروا تلك الأيام، وشهدوا تلك الثورة – بل شاركوا في صنعها- كتبوا عنها؟ المترجم
خلفية تاريخية عن الأحداث المحيطة بانقلاب 1964م:
رغم أن حياتنا – على المستوى الشخصي- في ضاحية بري كانت مرضية عامرة بالنشاط، إلا أن الأحداث العامة في السودان لم تكن كذلك. منذ وقوع الانقلاب العسكري الأول في عام 1958م (والذي أطاح بمجلس السيادة الأول) حدثت سلسلة مؤسفة من المحاولات الانقلابية، وتعاقب على سدة الحكم عدد من الحكومات المدنية، وأدى كل ذلك إلى اشتعال نيران حرب أهلية مرعبة ضد الجنوب لسنوات طوال. لا شك أن الكثيرين من دعاة الاستقلال (مثل إسماعيل الأزهري، والذي شغل ذات مرة منصب رئيس الوزراء، ورئيس مجلس السيادة في مرة أخرى) يعترفون على نحو متأخر، وبعد فوات الأوان، بأن استقلال السودان سياسيا جاء مبكرا بأكثر مما يجب. وعلى ذكر الأزهري، فإنني أذكر أن البريطانيين كانوا قد اعتقلوا ذلك الزعيم لفترة من الزمن قبل الاستقلال، وعندما غدا الرجل رئيسا للوزراء في أول حكومة وطنية مستقلة زار متفقدا سجن كوبر، حيث أهدي سجادة صغيرة كان قد نسجها بنفسه حين كان نزيلا بذلك السجن.
لم يمض وقت طويل على سكننا ببري قبل أن يقع الانقلاب على النظام العسكري في أكتوبر 1964م، وقد سبق ذلك التاريخ وقوع عدد من حوادث العنف المتفرقة. كنت في "سوق الخضار" ذات يوم حين اقتحمه عدد كبير من المتظاهرين الغاضبين (ومعظمهم من الطلاب)، وقاموا بقلب طاولات الخضروات وهم يجرون في كل اتجاه ممن كانوا يجرون خلفهم من الجنود الشاهرين لبنادقهم. أخذني الشيح أحمد تاجر الفواكه على عجل خلف أحد مساطب البيع حماية لي، وطلب مني البقاء مختبئة حتى انجلاء الموقف. قتل في تلك المظاهرة عدد من الشباب، وأسرت الشرطة عددا أكبر، اخذوا جميعا ومباشرة للسجن. كانت تلك ثورة شعبية كبرت وغدت عصيانا مدنيا مع تزايد القمع وحالة الاستياء العامة في أوساط الشعب. استعملت اللواري وسيارات الأجرة لقفل لبعض الشوارع والكباري. لم أكن، أنا وفتاح (زوجها عبد الفتاح المغربي) نعلم عن تلك المظاهرات عندما جئنا لوسط البلد. ذات مرة وجد فتاح نفسه محصورا في وسط تلك المظاهرات، وعبثا ظل يحاول الخروج من بين محاصريه. صرخ في وجهه أحد المتظاهرين: "ما هو رأيك يا خواجة"؟ كان فتاح أبيض اللون، ولذا ظنه المتظاهرون أجنبيا من "الخواجات". أسقط في يد فتاح فلم يحر غير أن يرد على الجمع الغاضب في بساطة: "أنا عبد الفتاح". جن جنون المتظاهرين فطفقوا يرددون اسمه بصوت عال "عبد الفتاح...عبد الفتاح". يا للمسكين! لم يجد ما يفعله إزاء ما كان يحدث أمامه! كان موقفا فكاهيا نوعا ما. كنا أمام تجمهر غوغاء متحمس، وكان المزاج العام لهؤلاء قابلا للتحول السريع خاصة في فترة غليان سياسي. احتفظت بسجل لأحداث تلك الأيام العشرين الثائرة، والتي أدت لاستقالة الفريق عبود. أتمنى أن أوفق في أن أنقل للقارئ ما كان يحدث أمام ناظري تلك الأيام من حالة من التوتر وعدم اليقين تحدث دوما عند تفكك البنية الاجتماعية.
سقوط الحكم العسكري الأول- أكتوبر 1964م:
الأربعاء 21/10/1964م: كان طلاب الجامعة يرغبون في عقد ندوة لمناقشة مشكلة جنوب السودان. كان بعض هؤلاء الطلاب من الجنوب، وكانت الأخبار تتناقل بين الطلاب أن الجيش كان يقصف القرى ويهاجم سكانها بوحشية. أثناء تلك الندوة هاجمت قوة من الشرطة الطلاب في حرم جامعتهم، وقتلت أحدهم، وأصابت 27 آخرين إصابة بالغة، واعتقلت عددا كبيرا منهم. تم إعلان حظر للتجوال، ولم يسمح لأحد بالحركة دون إذن خاص قبل انقضاء فترة الحظر. فجأة صمت هاتفنا في الدار.
الجمعة 23/10/1964م: كنت في إنجلترا وعدت للسودان حوالي الساعة الثامنة مساء، حين قابلني فتاح وأخبرني عن حظر التجول. كان المطار شبه مهجور، وأرسلت كل طائرات الهيئة البريطانية لطيران ما وراء البحار إلى عدن كإجراء تحوطي. تزودت الطائرة التي أتيت بها بالوقود ثم طارت على عجل. كان التوتر الشديد يملأ الجو.
السبت 24/10/1964م: ذهبت إلى السوق لشراء بعض الأغراض. وجدت أن كل المحلات مغلقة، إذ أن جنود الجيش والشرطة ينتشرون في كل الطرقات وهم في وضع "الاستعداد"، وهنالك عدد من الدبابات والمدافع الرشاشة وضعت في مداخل الشوارع الرئيسة. كأن هنالك محل واحد بقي مفتوحا (أسمته الكاتبة Settas). كان المحل يموج بأعداد كبيرة من المشترين وهم يبتاعون في هلع كميات كبيرة من الحاجيات، وكأنهم سيخزنونها لفترة مجهولة قد تطول. أستمر حظر التجول طوال ذلك اليوم.
الأحد 25/10/1964م: ذهب فتاح للسوق مجددا. كان السوق مهجورا، إذ سارت مظاهرات عارمة في أمدرمان أحرقت فيها كثير من السيارات، وأصيب أناس كثيرون (منهم أطفال ونساء وتجار) بطلقات رصاص عشوائية. حدثت مظاهرة وفوضى عارمة في المستشفي كذلك. امتلأ الشوارع ببقايا زجاج مهشم وحجارة، وخربت أعمدة إشارات المرور، وثني بعضها وهشم الآخر. كذلك لم تنج كثير من محطات توزيع الوقود، إذ كانت قد توقفت عن العمل بعد أن حطمت تماما. رفض الفريق عبود نداءات ومطالبات كثير من القضاة والساسة (مثل أزهري رئيس حزب "الأشقاء) (يبدو أن السيدة الكاتبة لا تزال تحتفظ للراحل برئاسة حزبه باسمه القديم. المترجم). كان قرشي (وهو ابن أخت فتاح) مسئولا عن فرض إجراءات الشرطة في ذلك اليوم (لعلها تقصد ضابط الشرطة قرشي فارس. المترجم).
الاثنين 26/10/1964م: ذهبنا لأمدرمان كي نطمئن على حالة بقية أفراد العائلة. بدت مظاهر التدمير والخراب في كل مكان. تجد الدبابات والسيارات المدرعة والمصفحة في كل مكان. سرت شائعات أن اثنين من ضباط الجيش المعتقلين قد لاذا بالهرب من محبسهما. كان معلوما أن الإمبراطور هيلاسلاسي كان مقررا أن يزور الخرطوم. أسيأتي فعلا ويتدخل لحل الأزمة؟ أم أنه سيمر مرورا سريعا على الخرطوم؟ كان شيخ سليمان (شيخ بري الذي اشترينا منه أرض منزلنا) يبدو سعيدا مبتهجا بالنصر على الديكتاتورية. كانت فكرة حرية التعبير والفكر والعمل تسكر رؤوس الجميع. كان الجميع سعداء.
في ذلك اليوم أعلن الفريق عبود في السابعة والنصف مساء بيانا للشعب أعلن فيه أنه سيدعو "المجلس المركزي" للاجتماع بأسرع ما يمكن ليحقق فيما وقع من أحداث (المجلس المركزي هو مجلس نيابي كان قد انتخب قبل شهور من ثورة أكتوبر، وكان في إجازة إبان حدوثها. المترجم). وبعد 90 دقيقة من بيانه (أي في نحو التاسعة مساء) عاد ليلقي بيانا علي الشعب أعلن فيه حل المجلس الأعلى للقوات المسلحة! لقد سقط النظام بالكامل!!! خرجت على إثر إذاعة ذلك البيان جماهير الشعب في المدن الثلاثة تهتف في ابتهاج. سمعنا كذلك صوت إطلاق الرصاص في سجن كوبر (السجن الرئيس في الخرطوم)، وقيل إن بعض السجناء قد حاولوا الهرب، فأطلق عليهم الرصاص. كان فتاح قلقا من عمليات نهب محتملة، إذ أن الحكومة والشرطة كانتا غائبتين.
الثلاثاء 27/10/1964م: كان الجميع سعداء. عادت الهواتف للعمل من جديد. اتصل فتاح بالأزهري وبالمحجوب وبفارس (لعل المقصود قريبه ضابط الشرطة قرشي فارس. المترجم) لمعرفة ما كان يجري في البلاد. ذهبنا لوسط المدينة بعد ذلك فلم نر غير الهرج والمرج. كانت الشرطة والجيش قد اختفيا تماما، وانتشرت المظاهرات في كل اتجاه. علا صوت الهتافات ينادي بالموت لعبود.
عند منتصف نهار ذلك اليوم أعلن عبود في بيان للشعب أنه بسبب دقة الأوضاع سيدعو "المجلس" للانعقاد يوم الاثنين المقبل (أي بعد 7 أيام!!!). إن لديه – كما قال- كل السلطات الدستورية! ذهب وفد مكون من السادة الصادق وأزهري وزعيم الشيوعيين (والذي كان مسجونا قبل أيام قلائل) للقصر للقاء عبود والتباحث معه حول الأوضاع (لا يخفى على القارئ عدم صحة هذا القول، بيد أنه يجب أن نضع في الاعتبار وضع الكاتبة وخلفيتها، ولعل بعض ما كتبته قد تعرض لبعض التحريف، أو أن بعض الحقائق قد تكون اختلطت عليها، وقلما تخلو حتى مذكرات الساسة المحترفين من أخطاء تاريخية متعمدة وغير متعمدة. المترجم). لعل عبود لم يكن يدرك تماما ما كان يجري حوله من أحداث جسيمة متلاحقة. عقد الفريق عبود مؤتمرا صحفيا في تمام السادسة مساء؛ بيد أنه لم يدل بكثير قول، ولم يقل شيئا مفيدا. لعله أراد أن يكسب الوقت بالمماطلة، وكان ذلك أمرا مكشوفا للكل.
واصل العاملون بالدولة في إضرابهم، والذي قالوا بأنهم لن يرفعوه حتى تحقيق النصر النهائي. كانت هنالك نذر كثيرة تنبئ بحدوث فوضى. لحسن الحظ تم تعزيز محطة الطاقة (ببري؟ المترجم) بمزيد من الجنود لحمايتها. تواصلت المظاهرات، ونام بعض المتظاهرين على مدرج المطار تحسبا لمحاولة من بعض الوزراء للهروب عبر مطار الخرطوم. شاهدنا عملية "شنق" لتمثال نصفي لعبود، وظل معلقا من عنقه على أحد الأشجار، ثم تم جره عبر الشوارع إلى المقبرة، حيث ترك هنالك.
الأربعاء 28/10/1964م: كان من المفترض – على الأقل نظريا- أن يلتئم المجلس (المركزي) للانعقاد يوم الاثنين. أصر المضربون على موقفهم من أنهم لن يتفاوضوا إلا مع حكومة جديدة. كون الأزهري – مع آخرين- مجلس معارضة سمي بالجبهة الوطنية /القومية (هذا ليس دقيقا بالطبع. المترجم)، وسرت شائعات بأن العسكر يرغبون في أن يمثلوا في ذلك المجلس. نتيجة لهذه الشائعات أحاطت الجماهير بالقصر، وحصبته بالحجارة والقطع الحديدية. كان كل من يمر بسيارة أمام ذلك الجمع يوقف ويؤخذ مفتاح سيارته. تم إغلاق جميع الكباري، وبذا تعذرت الحركة بين المدن، خاصة وأن سائقي سيارات الأجرة كانوا مع المضربين. كان الجميع يتحدثون عن احتمال قطع الماء والكهرباء عن المدينة. قمنا بعمل الاحتياطات اللازمة فملأنا حوض الحمام بالماء، وجلبنا بعض البرافين (لعلها تقصد الجاز الذي يستعمل في "لمبات الجاز" و"الرتاين". المترجم). قتل (أمام القصر) عدد كبير من المتظاهرين عن طريق إطلاق نار عشوائي. كانت الدولة والبلاد في حالة شلل كامل.
الخميس 29/10/1964م: سمعنا من المذياع نبأ يفيد بأن ممثلي "الجبهة الوطنية /القومية" قد عقدوا اجتماعا عبود حتى الساعة الثالثة صباحا. ساد جو من عدم الوضوح واليقين، خاصة بعد أن علمنا أن موظفي الإذاعة قد تضامنوا مع المضربين فتوقفوا عن العمل، إذ لم يعد بمقدورهم مواصلة بث البيانات الحكومية تحت الإكراه. بقيت الدولة والبلاد في حالة شلل كامل.
الجمعة 30/10/1964م: تم الإعلان عن تكوين حكومة جديدة برئاسة سر الختم الخليفة، ولكن بقي عبود كرئيس للبلاد. لم يقتنع أحد من الناس بأن ذلك هو التغيير الحقيقي المنشود. سادت البلاد فترة من الوجوم والسكون. بعث ستون من ضباط الجيش بطلب للفريق عبود مفاده ضرورة إبعاد الجيش عن التدخل في السياسة. تم اعتقال سبعة من أولئك الضباط ونفوا إلى أقصى الغرب في دارفور. يبدو أن الجيش منقسم على نفسه. هنالك احتمال حدوث صراع عسكري يتجاهل عبود والجبهة الوطنية/ القومية معا.
السبت 7/11/1964م: قامت مظاهرات ضخمة تحذر من تحرك عسكري. كانت مشاعر الجماهير معادية للعسكر باعتبارهم من ساندوا عبود ورفاقه طوال تلك السنوات الفائتة. طالب المتظاهرون بضرورة محاكمة أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة كخونة. أحبط عبود محاولة انقلابية باعتقاله لكل أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وإبعاده لهم في منطقة جبل مرة بدارفور (لعل المنطقة المقصودة هي زالنجي. المترجم ). عرض عبود الاستقالة من منصبه.
الأحد 8/11/1964م: استمرت المظاهرات في كل مكان. كان الجميع يعملون بالعوائق التي كان تضعها فلول وبقايا النظام العسكري السابق في طريق الوزارة الجديدة. ساد الغموض الموقف وما ستسفر عنه الأوضاع بالبلاد. بقي التخوف من أن يستولى العسكر على الحكم مرة أخرى. كان الموقف متوترا و"على حد السكين" كما يقال. نظمت الجبهة الوطنية/ القومية مظاهرات عديدة تميزت بترتيب وتنظيم دقيق. ظل المتظاهرون يطالبون بمحاكمة الزمرة العسكرية التي حكمتهم.
الاثنين 9/11/1964م: سرت شائعات عن قرب حدوث انقلاب عسكري. لذا صدرت من الجبهة القومية / الوطنية (لعلها تقصد جبهة الهيئات. المترجم) بيانات مناشدة للمتطوعين للقيام بحماية المباني المهمة والحيوية والإستراتيجية بالعاصمة. تم قفل شارع الجامعة بسيارات الأجرة. وأغلقت اللواري التي تحمل الطوب والأسمنت مداخل الكباري بعد أن تم أفراغ إطاراتها من الهواء (لعل الكاتبة تشير إلى "ليلة المتاريس" الشهيرة. المترجم).
الثلاثاء 10/11/1964م: استقال – أخيرا- عبود.
تولت حكم البلاد الوزارة المدنية برئاسة سر الختم الخليفة. كان الرجل – للأسف- ضعيفا... من النوع الذي لا يردد غير : "وأنا أيضا"! ربما كان هذا هو سبب اختيار عبود له (معلوم أن اختيار الرجل كان بواسطة جبهة الهيئات، وليس لعبود دخل في الأمر. المترجم). كانت حكومته ضعيفة ومترددة وغير قادرة على حسم أي أمر له قيمة. لم تستطع الجبهة التي قادت الثورة الشعبية أن تجعل من نفسها قوة سياسية فاعلة. لذا مضت الأمور تحت حكم مدني ضعيف لمدة سبع سنوات حتى قام انقلاب في مايو 1969م بقيادة نميري (الصحيح خمس سنوات، وليس سبع. المترجم).
كان النميري رجلا ديكتاتوريا غير محبوب من الشعب، رغم بقائه في الحكم لمدة تزيد عن 15 عام. حدثت في عهده محاولات انقلابات عسكرية عديدة، سفكت فيها دماء كثيرة، لكنه كان ينجو من الموت بأعجوبة كل مرة. يبدو أنه صار خبيرا في الخروج من قبضة معارضيه، وفي النجاة من محاولات عزله وتصفيته. أصدر قوانين الشريعة الإسلامية في أجواء هوس ونفاق، وطبع صورته على أوراق النقد السودانية في خطوة غير مسبوقة رغم أن الدين الإسلامي يحرم تصوير كل ذي روح (هكذا تقول الكاتبة! المترجم). توقف كثير من الناس لفترة من الوقت عن استعمال تلك الأوراق النقدية لذلك السبب.
نقلا عن "الأحداث"
badreldin ali [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.