على غير العادة، جاء صوت القذافي أمس -وهو يخاطب الليبيين والعالم- خافتاً ومتهدجاً ومهزوزاً، وكأنه صحا من نومة طويلة لتوه أو كأنه يتحدث من قعر بئر أو حفرة عميقة، فقد «أصبحت وطاة» الرجل على «فجر الأوديسا»، المصطلح الكودي لعملية التدخل العسكري الدولي لتنفيذ القرار الدولي (1973)، كما «أصبحت وطاة» صدام حسين عام 2003 على «عاصفة الصحراء»، فبعد أن وقعت الواقعة التي يبدو أن العقيد لم يتوقعها بفعل «خياله الخصب» الذي هيأ له أن الوعيد والتهديد والصراخ والزئير الذي يحاكي صولة الأسد كافياً وحده لأن يكف عنه ابتلاء التدخل، ليهزم بآلته الحربية «الجرذان» الثائرة من أبناء شعبه ويفنيهم عن بكرة أبيهم. دخول القرار الدولي حيز التنفيذ جاء متأخراً نحو يومين، كما أشرنا بالأمس، وكان ذلك مدعاة للقلق بعد أن توعد العقيد في اليوم السابق شعبه في المنطقة الشرقية وبنغازي بسوء المنقلب والإفناء وتقليب الحيطان على رؤوسهم «حيطة حيطة»، أو كما قال، طالباً منهم إلقاء بنادقهم في الشارع أو تسليمها لأقرب وحدة من كتائبه والخلود إلى منازلهم أو الهروب باتجاه مصر «كما تهرب الكلاب إلى الجيف.. والله لا يردهم» على حد تعبيره أيضاً. كان يقول ذلك وهو يكذب على شعبه ونفسه ومصدقاً كذبته، وما دليل فزعه «بآماله إلى الكذب» - كما قال أبو الطيب المتنبي في رثاء خولة أخت سيف الدولة- إلا حديث نظامه بلسانين، لسانه الذي يهدد ويتوعد ولسان وزير خارجيته موسى كوسا الذي يعلن عن التعامل مع قرار مجلس الأمن بإيجابية والقبول بالتطبيق الفوري لوقف إطلاق النار والامتناع عن مهاجمة المدنيين، بينما كانت كتائبه تقذ السير مسرعة من إجدابيا باتجاه بنغازي حتى بلغت ضواحيها فتصدى لها «الجرذان» الذين يُحسنون «الدبيب على الأرض» وردوها على أعقابها، فقتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا وغنموا منها العربات ذات الدفع الرباعي والراجمات والدبابات ولم يستثنوا حتى كاميرا تلفزيون «الجماهيرية». فتراجعت الكتائب المهزومة لتفاجأ ويفاجأ العقيد بعد ساعات قليلة بالطائرات الفرنسية تغير عليها وتحطم بعضها، وبصواريخ كروز «توما هوك» الأمريكية تمطر دفاعاته الجوية حول طرابلس ومصراته ليصحو من نومته وحلمه الطويل الذي «هلك الليبيين.. وهو مقعمز على الكرسي 42 سنة» كما خاطبه أحد مواطنيه عبر الفضائيات. على مستوى الفعل الذي ينم عن الجبن و«الخُلعة» لجأ القذافي إلى «التجمعات المصنوعة» من الموالين له من القبيلة أو من اللجان الشعبية ليتحلقوا من حول قصره في باب العزيزية وفي مطار القرضابية الدولي في سرت مسقط رأسه وأحد معاقل قواته الرئيسية الجوية والبرية ومطار غدامس ومدينة الدرج، تجمعات لنشر شبكة من «الدروع البشرية» تحميه شخصياً هو وعائلته المقدسة وتحمي ما تبقى له من طائرات وآليات حربية، فالرجل لا يزال «بخياله الخصب» أيضاً يأمل في الحياة وفي السلطة وإعادة الكرة على «الجرذان» ليواصل دور «القائد الأممي» وملك ملوك أفريقيا حتى يورث عرشه لسيف الإسلام ابنه المدلل. ففي خطابه الطالع من الحفرة العميقة لازال يتوعد، وإن على استحياء، ويخاطب العالم بأن القرار الدولي بفرض منطقة حظر الطيران في بلاده وحماية المدنيين ليس إلا «حرباً صليبية ثانية» استهدفت العرب والمسلمين، وذلك بعد ساعات معدودة من خطابه السابق الذي كان يقول فيه إنه يحارب «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، فلم يعرف الناس أهو يقاتل القاعدة خدمة «للصليبيين» في حربهم على الإرهاب أم يحارب في صفوف القاعدة التي تصنف «الصليبييبن واليهود» في خانة أعدائها الرئيسيين، ما يذكرك بقول أبي العلاء المعري المتشكك -الذي جر عليه تهمة التكفير- «هذا بناقوس يدق وذاك بمئذنة يصيح.. ليت شعري ما الصحيح؟!». وفي خطابه المهتز وبصوته الخفيض طالب الشعب الليبي رجالاً ونساء وشباباً وأطفالاً بالتصدي «للحملة الصليبية الثانية»، وقال إنه «سيفتح المخازن ويوزِّع عليهم السلاح».. تصور أن يتصدى الشعب بالبنادق ومدافع «الآر بي جي» المحمولة على الكتوف لصواريخ «توما هوك» التي تضرب من على بعد ألف ميل وللطائرات المغيرة من أعلى السموات.. يقول هذا وهو بلا شك يعلم - أو يجب أن يعلم- أن قرار مجلس الأمن يقول بالنص الصريح بعدم احتلال ليبيا أو خوض عمليات برية على الأرض، ألا يقرأ الرجل حتى القرارات الدولية في شأن بلاده أو شؤون وشجون حكمه، ألا يتابع الفضائيات وتصريحات قادة المجتمع الدولي والتحالف التي ظل يرددها أوباما وهيلاري كلينتون وساركوزي وديفيد كاميرون، ألم يسمع «الجرذان» الثائرين وهم يرفضون منذ اليوم الأول التدخل العسكري الأجنبي المباشر في بلادهم وقولهم، الصريح أيضاً، بأنهم لا يريدون استبدال «احتلال القذافي بالاحتلال الأجنبي»، فالعقيد يواصل الكذب على شعبه وعلى العالم وعلى نفسه أيضاً ويتحرى الكذب، مما يخشى معه أن يكتب عند الله كذاباً. وفي كلمته القصيرة والمقتضبة والمرتعشة تلك، دعا الشعوب العربية والإسلامية وشعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية لنجدته في مواجهة «الحملة الصليبية الثانية والاستعمار الجديد»، بعد أن هيأ له ذلك الخيال الخصب كذلك أنه «قائد أممي» قولاً وفعلاً وأن صيحته ستحرك وتوقظ الشعوب والجماهير على مستوى العالم لنجدته ونجدة «الجماهيرية». ولم لا، فقد طالعت إحدى اللافتات التي تحملها الجماعات المحشودة في باب العزيزية وترددها هتافاً يقول «الله.. العقيد.. ليبيا وبس»، فهو من شدة «تواضعه» وضع اسمه أو رتبته بعد الله «مباشرة» في الترتيب، وحتى قبل «محمد» عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، وقدم نفسه واسمه على الوطن! نعم لقد بدأ العد التنازلي، و«دقت ساعة العمل» كما كان يردد في أول ظهور له بعد الأزمة، وما علينا إلا أن ننتظر ونتسمر أمام شاشات التلفزيون لنرى «نهاية الفيلم» المثير فور انتهاء «المناظر» التي بدأت بالأمس عند الرابعة وخمس وأربعين دقيقة بتوقيت غرينتش.