كرة اللهب المندفعة بين المحيط الأطلسي والخليج العربي تشعل الثورات والانتفاضات أينما حلت اتخذت لها أمس مساراً جديداً مقاطعاً ومكملاً من شمال الجزيرة العربية إلى جنوبها وبالعكس، حيث شهدت الجمعة أحداثاً عظيمة وتصعيداً في المواجهات في كل من اليمن وسوريا والأردن، مواجهات تراوحت مطالبها بين التغيير الشامل والرحيل كما في حالة اليمن وبين الإصلاحات الجذرية في بنية النظام القائم كما هو الحال في الأردن وإلى حدٍّ ما في سوريا. في اليمن أطلق الشباب المعتصمون في «ساحة التغيير» أمام جامعة صنعاء على وقفتهم أمس (جمعة الرحيل)، رحيل الرئيس علي عبد الله صالح، في وقت بدا فيه أن الرئيس صالح ونظامه يعيش الآن أضعف حالاته، يقدم على مدى أسابيع المبادرة تلو الأخرى وتجد الرفض ويرتفع «سقف المطالب» بعد كل مبادرة جديدة كما اعترف وهو يخاطب يوم الخميس قادة قواته المسلحة ووزارة الداخلية، بعد يوم واحد من إعلانه «حالة الطواريء» التي مررها عبر جلسة خاصة للبرلمان، لم يعرف نصابها. فبالإضافة للضغط الذي يواجهه صالح ونظامه على مستوى الشارع في مختلف المحافظات والمدن اليمنية، شمالاً وجنوباً، فإنه وبعد أحداث ساحة التغيير الدامية الأسبوع الماضي التي قتل خلالها أكثر من خمسين يمنياً بدم بارد من قبل القناصة المتمركزين في البنايات المطلَّة على «ساحة التغيير» نفضت أحزاب «اللقاء المشترك» يدها من كل حوار مع النظام والتحقت بها مجموعات برلمانية وقيادات متقدمة في حزب الرئيس صالح نفسه «المؤتمر الشعبي»، كما شهدت القوات المسلحة انشقاقات مهمة في الجنوب والشمال، كان أبرزها -برغم الشكوك- انشقاق أحد أقوى رجال النظام من العسكريين اللواء علي محسن الأحمر، الأخ غير الشقيق للرئيس علي صالح. كما امتد الانشقاق والانفضاض ليشمل قبيلة الرئيس التي تشكل دعامة رئيسية لنظامه وحزبه، قبيلة حاشد، بزعامة الشيخ صادق الأحمر استكمالاً لموقف سابق كان قد اتخذه النائب في حزب المؤتمر الشعبي وابن زعيم القبيلة التاريخي، الشيخ حسين بن الشيخ عبد الله الأحمر. لكن مع ذلك ظل الرئيس صالح قادراً على حشد جماهير كثيفة من الموالين له تقدر بالملايين مثلما فعل يوم أمس في جمعة أسماها (جمعة التسامح) في ميدان «السبعين» القريب من ساحة التغيير. مشكلة الرئيس صالح الذي درج في الآونة الأخيرة على تقديم المبادرات الإصلاحية، والتي وصلت إلى حد الإعلان عن عدم نيته الترشح مرة أخرى بعد أكثر من 30 سنه أمضاها في السلطة، والى درجة الإعلان عن الاستعداد للتنازل عن السلطة «على أن يسلِّمها الى جهة أمينة وايدٍ نظيفة» كما قال أمام مؤيديه أمس هي أنه لم يعد هناك من معارضيه من يثق في وعوده، حيث بات جميع هؤلاء ينظرون بكثير من الريبة والتشكك لمثل هذه الوعود ويعتبرونها مجرد تكتيكات لشراء الوقت، ويدللون على ذلك بكثير من الشواهد آخرها «مجزرة ساحة التغيير» الأسبوع الماضي، كما يرون في حديثه واشتراطه تسليم السلطة لمن يثق فيهم من ذوي الأيدي النظيفة و«ليس أصحاب السوابق» على حد قوله بمثابة تعبير عن الرغبة في استمرار حزبه في الحكم أو توريث ابنه «أحمد» ليستمر هو في الحكم من وراء ستار، بعد أن عبر صراحة في اجتماعه مع قادة الجيش والأجهزة الأمنية أنه ليس على استعداد لتقديم رأسه أو حزبه «لحبل المشنقة». وفي كل الأحوال فإن الرئيس صالح يبدو الآن في أضعف أحواله كما يجمع المراقبون ويتوقع اليمنيون -خصوصاً المعارضون منهم- رحيله في أية لحظة، لكن جميع القوى المحلية والإقليمية والدولية تخشى أن يكون هذا الرحيل بمثابة انزلاق نحو الفوضى في اليمن الذي يُعاني من انتشار السلاح والقابلية للانشطار إلى شمال وجنوب مجدداً وربما كان ذلك من أسباب التحرك باتجاه السعودية واللقاءات المتكررة مع السفير الأمريكي في صنعاء. فاليمن بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي الخطير في جنوب الجزيرة العربية والمطل على مضيق باب المندب والممرات المائية الحيوية لحركة النفط والتجارة الدولية والقوات البحرية للدول الكبرى، فهي قد تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى واحدة من أهم الساحات لنشاط الإرهاب الدولي بقيادة «القاعدة» وأسامة بن لادن ومحسن العولقي، مثلما شهدت هذه السنوات أيضاً صراعاً داخلياً ودورات متكررة لحرب أهلية في شمال البلاد قادها الحوثيون من «الشيعة الزيدية»، وتحولوا إلى صداع دائم في المناطق الجنوبية للملكة العربية السعودية التي اضطرت للدخول في المواجهات معهم على الحدود، بعد أن تحولوا كذلك إلى حاضنة أو ممر آمن لأنشطة القاعدة وهجماتها المتكررة على المملكة. وبذلك أصبح الرئيس صالح «حليفاً طبيعياً» لكل من واشنطن والرياض، غير أن مشكلته الحقيقية، والتي قد تعجل برحيله، هى أنه حليف لم يتمكن من إنجاز ما يليه من واجبات تتمثل في القضاء على خلايا القاعدة أو المتمردين الحوثيين، الأمر الذي قد يدفع هؤلاء الحلفاء الإقليميين والدوليين للتخلي عنه والبحث عن صيغة أخرى للحكم في اليمن تكون أكثر نجاعة وجدوى. وقد يرى هؤلاء أن الدور المنتظر في التخلص من «إرهاب القاعدة» أو «تمردات الحوثيين» لا يمكن إنجازه بواسطة رئيس ونظام غير قادر على كسب ثقة شعبه وتطلعات مواطنيه لا على المستوى السياسي ولا الاقتصادي، وهذا ما يدفعهم للتفكير في صيغة جديدة لحكم البلاد يرتضيها الشعب، مع البحث عن مخرج آمن للبلاد يجنبها الانزلاق إلى الفوضى أو التقسيم. ومع ختام العمل في هذه «الإضاءة» كان آخر «خبر عاجل» صادر من اليمن قد نقلته وكالة «رويترز» عن وزير الخارجية اليمني في حكومة تصريف الأعمال د. أبو بكر القربي، عبر فيه عن أمله أن يتم انتقال السلطة في بلاده اليوم قبل الغد، وقال إن الإطار الزمني لهذا الانتقال يجب أن لا يكون عقبة.. فهل بوصول صحف اليوم إلى أيدي القراء سيكون الرئيس اليمني علي عبد الله صالح قد رحل وسلم السلطة أم يعد بالتخلي عن منصبه خلال 60 يوماً كما تشير بعض التوقعات من خلال آلية التفاوض التي أشار إليها القربي؟.. الله أعلم