يجسد حالة الفوضى التي تضرب بأطنابها معظم قطاعاتنا الإنتاجية، ذلك هو مشروع الأنهار بولاية الجزيرة، حيث إنه استثمار أجنبي في القطاع الزراعي، فبدلاً من أن يحقق الأهداف الزراعية المعروفة أصبح خصماً على حقوق المزارعين الحقيقيين. استمتعت جداً بقراءة التحقيق الذي أجرته الصحافية الشابة نهال خالد بالأهرام اليوم حول مآلات مشروع الأنهار بولاية الجزيرة، التحقيق كان شاملاً ووافياً للمعلومات التي يمكن الاستهداء بها لفتح بلاغ رسمي أو على أقل تقدير فتح تحقيق رسمي من قبل الأجهزة المعنية بالاستثمار في البلاد وعلى رأسها اللجنة العليا التي هي بيد رئاسة الجمهورية، تلخيصاً لذلك التحقيق فإن المشروع الذي منح لمستثمر عربي تبلغ مساحته 40 ألف فدان في أخصب أرض زراعية هي ولاية الجزيرة، وعليه فإنه استحوذ على أراضي ألفي مزارع بالتمام والكمال، أما حيثيات القضية فإن المشروع صدق لقيامه في منطقة وأقيم في منطقة أخرى، تجاوز واضح ومن قولة (تيت) قبل أن يبدأ المشروع.. وعليه فإن القصد في التجاوز يصبح واضحاً وصارخاً، ولأن المواطن السوداني والمزارع على وجه التحديد لا يفرط لا في العرض ولا الأرض فقد ظهرت الاشتباكات وإطلاق الرصاص بين الأهالي والمشروع. المستثمر لم ينفذ بنود العقد وهذا يوضح بجلاء ألا شروط جزائية وضعت حال الإخلال بالبنود المتفق عليها. الأهالي اشتكوا من عدم وجود الخدمات وهي شكوى كارثية، لأن الأصل في الاستثمار زراعياً كان أم صناعياً.. أن يقدم خدمات المياه والكهرباء للمنطقة والصحة والتعليم، لأن التنمية الاجتماعية هي الأهم من تحقيق عائدات مالية للحكومة المركزية. المصيبة أن المشروع وبكل هذه التجاوزات محروس من قبل الشرطة لحماية العمالة الأجنبية التي جلبت للمشروع.. أكثر ما يثير في التحقيق الصحفي حول مشروع الأنهار هو ما تحصلت عليه المحققة من معلومات رسمية من حكومة ولاية الجزيرة عبر ردود المدير العام لوزارة الزراعة الذي أكد للأهرام اليوم أن المساحة المصدقة بالفعل هي 40 ألف فدان، وأن العقد الأول بين الحكومة والمستثمر لم يشتمل على تعويضات للملاك، فاستدركت الحكومة خطأها- تصوروا- فأبرمت عقداً إضافيا تم بموجبه استقطاع 10 آلاف فدان من المستثمر للملاك، وفي ظني أن المستثمر كان على علم بهذه التجاوزات وإلا لما وافق على اقتطاع عشرة آلاف فدان كاملة من المشروع دون أن يحرك ساكناً أو يطالب حتى بالتعويض، بل إن المستثمر ومن (كرمه).. وافق على ري المساحة التي اقتطعت منه لصالح المواطنين. المزارعون اشتكوا من أن المستثمر لم ينفذ بنود العقد المعدل، أي أن ما فعله كان فقط فك اشتباك. إذن نحن أمام نموذج جديد من مشكلات الاستثمار، كان في السابق يشتكي المستثمر تعقيدات القوانين وبيروقراطية التنفيذ وتعدي المواطنين على أرضه، أما في حالة مشروع الأنهار وبحسب رواية التحقيق الصحفي واعترافات مسؤول مالية الولاية المعنية، فإن الحكومة هي التي اعتدت على أرض ليست ملكها، وقامت بالنزع لصالح مستثمر وليس لصالح مشروع قومي، منحت أرض الغير لفرد أجنبي دون تعويض أو حفظ حقوق. لا أعرف إلى متى تستمر تعقيدات ومشكلات الاستثمار بالبلاد بهذه الطريقة التي تخلق جفوة بين المواطنين والمستثمرين .. أليس هناك طرق لإقرار مبدأ التراضي بين الجميع، كيف نخلق علاقة تعاون وتبادل منافع بين الطرفين.. إحساس المواطن أن المشروع الذي سيقوم في منطقته هو ضربة حظ وعليه اغتنامها، إحساس يتم إذا ما قاد المشروع الاستثماري إلى وضع حد فاصل للعطالة والهجرة والفقر.. فماذا يريد إنسان المنطقة غير الاستقرار والصحة والتعليم حتى لا يفارق وطنه الصغير.. لا أعرف لماذا تتعقد الأمور.. فكلما ابتدعت الحكومة آلية جديدة لتسهيل وانسياب الاستثمار بالبلاد.. زادت التعقيدات والبيروقراطية.