كلمَّا سمعت(سارينا الإسعاف ولمحت أنواره) انتحيت بسيارتي جانباً لأعطي أفضلية المرور (لسيارة الإسعاف)، ودعوت لمن بداخلها بالسلامة ثم أتساءل في سري:- ثمَّ ماذا بعد أن تصل سيارة الإسعاف بالمريض (هذا إن وجد، لأن بعض سائقي الإسعاف يستخدمون الصافرة للمرور دون أن يكون داخل الإسعاف مريض) ماذا سيحدث للمريض بعد وصوله الحوادث؟.. قد يبقى مفترشاً الأرض أو النقالة(إن وجدت) لعدة ساعات قبل أن يجد العناية أو يفارق الحياة.. ليبدأ ذووه رحلة العودة الأليمة.. وأتذكر خوفنا القديم من الإسعاف ونحن صغار عندما كنَّا (نقرص أذننا) بما يعني (الشر برة وبعيد). وكنا على حق في ما أظن.. أمس الأول أدخلت (خالتي) حوادث مستشفى الخرطوم بعد رحلة طويلة بالإسعاف من كريمة.. وحمدت لشركة شريان الشمال حُسن صنيعها فلولاها لما فكر أحد في أن ينقل مريضاً بالسيارة من الشمالية إلى الخرطوم لأن ذلك من ضروب المستحيل.. جزى الله أهل الشريان كل خير. في حوادث مستشفى الخرطوم كانت (المريضة) تتمدد على نقالة وسط الصالة، ويحمل ابنها أوراق طلب الفحص ويجري في كل إتجاه علَّه يجد من يترك موقعه ويأتي ليأخذ العينة من المريضة فاقدة الوعي.. وتلفَّت يمنة ويسرة فوقع بصري على د. كمال عبد القادر وكيل وزارة الصحة الاتحادية، يتفقد الحوادث في أمسية يوم الجمعة والتي هي أول السنة الميلادية ويوم الاستقلال، وهو يرتدي جلابية وعمة، فأقبل عليَّ يجيبني ويسألني فأشرت للمريضة فأبدى اهتماماًً خاصاً، مع اهتمامه بكل المرضى في الحوادث التي يتفقدها بالليل والنهار وساعات الصباح الأولى في المدن الثلاث أعانه الله. ولم تمض سوى دقائق معدودات حتى دخلت الحوادث د. هالة أحمد أبو زيد(مدير قسم الحوادث بمستشفى الخرطوم) والدكتورة متخصصة في الطوارئ والإسعاف ،ومن أحلامها أن تقوم في البلاد مستشفيات متخصصة في الطوارئ والحوادث تستقبل المريض وتجري له كل الإجراءات الأولية ،كما هو متعارف عليه في الدول المتقدمة، وتعينه على الاستقرار والاستمرار في مقاومة حالته المرضية من حيث التنفس الصناعي وتنظيم ضربات القلب وفحص الدم والسكر والضغط وإيقاف النزيف وتغذيته بأنبوب المعدة وتركيب الدربات ثمَّ تشخيص حالته وتحويله للقسم المختص أو نقله لمستشفى آخر أو لغرفة العناية الحثيثة وما إلى ذلك، وكل ذلك في غضون دقائق معدودة وهي دقائق حرجة وفي غاية الأهمية للمريض.. د. هالة بحيويتها ونشاطها وعلمها وقوة شخصيتها تبدو (كتعلمجي في ميدان البيادة) عيني باردة.. أكثر منها طبيبة أخصائية رقيقة وجميلة وأنيقة.. وفي لحظات تحوَّل قسم الحوادث إلى خلية نحل وتحرك الأطباء والسسترات والممرضون والممرضات الأحياء منهم (والأموت) ود. هالة تأمر وتنهى وتوِّجه بصوت مسموع مصحوباً بكلمات شكر أو اعتذار (بالإنجليزية) ،وصار كل شئ على ما يرام.. وهذه مدرسة جديدة في معاملة المرضى قادتها د. هالة وبعض زملاء لها موزعين على المدن الثلاث.. ويستغرب المرء كيف يمكن أن تكون لنا مثل هذه الإمكانيات ولا نحس بها.. إنها قوة الإرادة والإدارة معاً، ويعود الفضل من بعد الله تعالى للدكتور كمال عبد القادر الذي يعمل في صمت مهيب في وزارة الصحة التي حباها الله بالدكتورة تابيتا بطرس والبروفيسور حسن أبو عائشة.. وتدهشني السريَّة التي تعتمدها وزارة الصحة وكأنها تستعد لأول (تفجير نووي) يطيح بالإهمال والتدني ،ولن نقول العيادات التي تحيط بالمستشفى إحاطة السوار بالمعصم لتحلب جيوب المرضى حتى آخر مليم.. ثمَّ يطوفون بعد ذلك يسألون الناس سداد فواتير علاجهم أعطوهم أو منعوهم. كان للدكتور عبد الحليم إسماعيل المتعافي فكرة رائعة في تزويد العاصمة بمستشفيات طرفية، وقد نفذت بالفعل مستشفى أم بدة بأم درمان، مستشفى البان جديد بالحاج يوسف، والمستشفى التركي بالكلاكلة ومستشفى الجريف شرق وغيره.. ثم تحويل مستشفى الخرطوم في عمارة واحدة ،اقترح لها برج الخرطوم جوار مبنى سونا، يحتوي على كل التخصصات .ويستقبل الحالات من الدرجة الثالثة العيادات المحولة ،ولا ينفي ذلك أن يكون مستشفى تعليمياً يواصل فيه طلاب طب جامعة الخرطوم تكملة علومهم النظرية والعملية.. ثم يشق طريقاً من كبري المسلمية إلى قلب الخرطوم ويفك الازدحام المروري.. وتوجد مساحات أكبر وأجمل للتجارة والاستثمار والترفيه والتجميل لوسط الخرطوم ولكن.. د. كمال عبد القادر وكيل وزارة الصحة الاتحادية.. د. هالة أحمد أبو زيد مدير قسم الحوادث بمستشفى الخرطوم ومن خلفهما الوزير الاتحادي ووزير الدولة بالوزارة، يعملون بشكل مدهش في عدة اتجاهات، لكنهم لا يرغبون في الإعلام ولا الإعلان عنها.. خوفاً من العين والحسد ربما.. لكنهم أخشى ما يخشونه البروقراطية.. والمقصات!!.. والفرامل.. وقديماً كان في الناس الحسد. كاد اليأس أن يدب في قلب د. هالة التي درست بالخارج وتخصصت وجاءت بعلمها لتخدم بلادها ومواطنيها وهي ربيبة أسرة معروفة ومقتدرة.. فقال لها د. كمال: تذكري أنك في بلد يُعاقب فيها الشاطر (لأنه جاء الأول) ويُعاقب فيها الفاشل (لأنه جاء الطيش) توكلي على الله واعملي.. وهذا هو المفروض