بدا للمعارضة في البداية أنها يمكنها أن تسقط الرئيس البشير بسهولة في الانتخابات، ولعل ذلك من الاستدراج الإلهي حتى تخوض أحزابها الانتخابات فلا تقاطعها قبيل مرحلتها الأولى، وتفتقت عبقريتها عبر إكثار المرشحين وفقاً لنظرية تشتيت الأصوات، فلما مضت مرحلتها الأولى «التسجيل» ومرحلتها الثانية «الترشيح» ودخلت مرحلتها الثالثة «الحملة الانتخابية» فلم يبق إلا مرحلتها الأخيرة «الاقتراع»، ظهر لها التأييد الشعبي الكاسح للرئيس البشير في حملته الانتخابية، فتحولت من تشتيت الأصوات إلى تجميعها في مرشح واحد، فلما استحال ذلك على شتات تجمع جوبا «تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى»، اكتفوا بتجميع الأصوات في مواجهة مرشح ولاية الخرطوم راضين من الغنيمة بالإياب. وأخيراً وليس آخراً كونوا لهم- كواجهة لتجمع جوبا- جسماً غريباً من مرشحي الرئاسة يطالب بتأجيل الانتخابات حتى شهر نوفمبر، قريباً من استفتاء الجنوبيين على حق تقرير المصير، أو بالأحرى تأجيل المرحلة الأخيرة من الانتخابات «الاقتراع» حتى ذلك التاريخ، مخالفين بذلك الدستور الانتقالي الذي ينص على هذا الاستحقاق الانتخابي قبيل الاستفتاء. فأي عبقرية سياسية هذه تطرح هذا الخيار اللامعقول، وكأنه يقول بتأجيل الانتخابات إلى ما بعد الاستفتاء في مخالفة صريحة للدستور. وجاء رد مفوضية الانتخابات عاجلاً وحاسماً بأن هذا التأجيل الغريب ليس من اختصاصها، وجاء رد حكومة الوحدة الوطنية ينطق باسم الدستور بقيام الانتخابات في موعدها، وتناغم معه اجتماع دول الإيقاد والمجتمع الدولي وعلى رأسه الولاياتالمتحدة، وما درت أحزاب المعارضة أنها بهذا التأجيل اللا عقلاني تعطي فرصة أوسع للمؤتمر الوطني لمزيد من المكاسب؛ بافتتاح مرافق خدمية أكثر وبنيات تحتية أكبر ولمزيد من التماسك التنظيمي والتأييد الشعبي، وما درت أحزاب المعارضة أن المجتمع الدولي يراقب وأن الرأي العام بالسودان يتابع، وقد ظهر لهما بجلاء أن مقترح الدقائق الأخيرة بتأجيل الانتخابات ليس هو إلا تهرباً مكشوفاً من عملية الاقتراع، حتى تأخذ عبقرية المعارضة «نفَسَها» في انتظار الفرج من خارج صناديق الاقتراع! السودان اليوم تحت الأضواء محلياً وإقليمياً ودولياً، وأي تراخٍ عن الاستحقاق الانتخابي في موعده ليس إلاّ عبثاً سياسياً يهز صورة البلاد في نظر العالم، «تحسبو لعب» كما يقول المثل السوداني.. ولعل أصدق تعبير عن هذا العبث الذي يمارسه مرشحو الرئاسة؛ هو تصريح د. نافع بلغة الرياضة وبخاصة الماراثون «تأجيل الانتخابات مافي، والميس قرب والفتر يمرق». وقريباً منه بلغة الرياضة أيضاً تصريح د. غندور «لا يعقل إيقاف المباراة قبل نهايتها بلا مبرر»، يقصد بالطبع تأجيل المرحلة الختامية للانتخابات وهي الاقتراع بعد مرور المراحل السابقة لها.. فيبدو أن قيادات المؤتمر الوطني تتحدث بلغة الرياضيين التي بدأت بها المعارضة وهي «تشتيت الأصوات»، على غرار تشتيت الكرة في كرة القدم الذي يمارسه من يكون في موقف صعب من الفرق. وهناك استحقاق سياسي غاب عن قيادات المعارضة، وهو أن المجتمع الدولي- وهذا من حقه- يريد أن يعرف حقيقة الأوزان السياسية لقيادات أحزابنا، حتى يبني إستراتيجياته من تحالفات ومخططات على بينة من المعلومات التي لا تتاح إلاّ بالانتخابات، وذلك بعد 24 عاماً من آخر انتخابات تعددية، وليقدر مدى المتغيرات التي وقعت في الخارطة السياسية في السودان. فمثل هذه الأوزان تتغير باستمرار في عالم يتغير ولا تورث كالزعامة الطائفية أو القيادة الحزبية، وكذلك يريد الجيل الجديد من السودانيين وحتى المخضرمين الذين عاشوا أكثر من عهد سياسي، أن يعرفوا قبل غيرهم الأحجام الحقيقية لهذه القيادات السياسية، من خلال ما تدعيه من شعارات كالتغيير أو المنجيات والمهلكات أو الحلول السحرية لمشاكل السودان أو الولاء التاريخي للديمقراطية أو حتى استكمال النهضة!! وذلك حتى لا تتحدث هذه القيادات بعد الانتخابات إلاّ بحسب وزنها وحجمها، فلا تعلو أصوات بلا سند شعبي تملأ المنابر والمحافل بالضجيج والعجيج. يريد الجيل الجديد والقديم معا أن يعرف إلى أي مدى حافظت أحزاب الطائفية على الولاء الموروث، وهل تجمع هذه المرة بين الزعامة الطائفية والقيادة السياسية على خلاف سنة أسلافها من حيث الاكتفاء برعاية الحزب، يريد هذا الجيل الجديد والقديم أن يعرف موقع الأحزاب اليسارية من الخارطة السياسية، وبين الطرف الطائفي والطرف اليساري يقع المؤتمر الوطني وحلفاؤه وسطاً بينهما، وهو نفسه يحتاج إلى الرجوع للشعب لأخذ تفويضه لمواصلة مسيرة التقدم. وأتساءل: لماذا ترفض هذه الأحزاب أن يعبر الشعب عن تأييده للنظام الحاكم عن طريق انتخابات حرة ونزيهة؟ أليس ذلك من المبادئ الديمقراطية؟ أليس ذلك من الاستحقاق السياسي، وهو ألا يستمر النظام في الحكم بلا تفويض شعبي انتخابي، ثم أليس ذلك من سنة التعاقب بين الأجيال، حيث تتطور الساحة السياسية بدخول لاعبين جدد.