مرت الانتخابات بسلام، وكان الأمن مستتباً والأحوال هادئة، والأجواء ساكنة، وسارت الحياة سيرها الطبيعي العادي طيلة أيام الانتخابات وحتى بعد إعلان نتائجها.. ومن قبيل الحرص والحذر، كان البعض يتوجسون خيفة أن تتكرر التوترات والمآسي التي حدثت في بعض البلدان الأخرى أثناء الانتخابات، وبعد ظهور نتائجها، ولكن الله سبحانه وتعالى لطف وسلمت جرة السودان من الكسر.. وبعد ظهور نتائج الانتخابات حدثت ردود فعل متبانية، وأعلن بعضهم عدم اعترافهم بها، وأخذوا ينادون بضرورة إعادتها، وفي تقديري أنهم إذا انتظروا قراراً يصدر من رئاسة الدولة بإعادتها، فإنهم ينتظرون السراب وماء الرهاب، ويحرثون في البحر، ويضيعون وقتهم، ويبددون جهدهم وطاقاتهم سدىً، وينبغي في المرحلة القادمة ت جنب الخطأ الفادح الذي ارتكبوه بعدم أخذهم للمسألة مأخذ الجد، باضاعتهم للسنوات الخمس الماضية في الكلام الكثير، المكرر الممجوج، ولا ينكر أحد أن لبعض هذه الأحزاب سابق وجود عدد كثيف ومقدر داخل برلمانات الماضي، ولكن بعض الأحزاب الصغيرة ظلت تملأ الأرض ضجيجاً، وعجيجاً، وعويلاً، وصراخاً، وتحرض غيرها لمقاطعة الانتخابات، رغم أنها بلا قواعد وبلاسند جماهيري، وبعضها كان وجودها عدمياً وصفرياً، في كل البرلمانات في كافة العهود، ولم يكن لها وجود في كافة المجالس التشريعية الاتحادية والولائية، ولم يفز لها مرشح واحد في كل العقود المنصرمة من عمر الزمان، وأن بعض هذه الأحزاب الصغيرة كان لها وجود برلماني ضئيل يكاد لا يذكر، وعدد النواب الفائزين لها في الدوائر الجغرافية في كل البرلمانات وفي كافة العهود لم يزد على السبعة نواب، ومع ذلك ظلت هذه الأحزاب الصغيرة تسعى جاهدة للجلوس على كرسي الوصاية والأستاذية، وقد أوردت حلفاءها من الأحزاب الأخرى موارد الهلاك، وقادتها لبيداء التيه، وفي أدبياتها المكتوبة الموثقة كانت تصفها بأنها أحزاب رجعية متخلفة، ثم تحالفت معها تكتيكياً (والغاية عندهم تبرر الوسيلة).. وبالطبع أن كبرياء الأمة فوق كبرياء هذا الشخص، مهما علت مكانته، وفوق كبرياء ذاك الفرد مهما إرتفعت منزلته، ولا يمكن أن ترهن الأمة السودانية إرادتها، لأن هذا يريد الانتقام لذاته بشتى السبل والوسائل، وذاك يرى أنه الأحق بالرئاسة والصدارة من غيره، ويظل في حالة احتجاج دائم، لأنه لا يرضى أن يكون مرؤوساً، ومهما تباينت الآراء حول الانتخابات وكثرت التحفظات والملاحظات، فإن حسنتها الوحيدة أنها ثبتت مبدأ تداول السلطة سلمياً، عن طريق صناديق الاقتراع كل أربع سنوات، وعلى الجميع أن يستعدوا منذ الآن ويرتبطوا بالجماهير عن طريق اللجان الشعبية، ومجالس المحليات، مع الارتباط بالقواعد عن طريق التنمية الشعبية، وهذا هو المحك الحقيقي الذي يؤكد بقاء أو فناء الأحزاب في المرحلة القادمة، وتنتظر الأحزاب مهمة شاقة عسيرة وليست نزهة سهلة ( وكثرة التصريحات والولولة لا تفيد، ويكون حصادها كحصاد الهشيم).وقد ظلت كافة أجهزة الإعلام تردد أن عمر الدورة القادمة أربعة أعوام في كافة المستويات، وهي فترة معقولة ليس فيها قصر مخل ولا طول ممل، ولكن عند البدء في إعلان النتائج أخذ البعض يرددون أن مدة الدورة القادمة خمسة أعوام كاملة، أي أنهم أضافوا اليها عاماً كاملاً، وفي هذا نقض للعهود والوعود، التي أعلنت أمام كافة المواطنين والناخبين، وشهد عليها الرأي العام المحلي والعالمي. وقد حصل المشير البشير رئيس الجمهورية المنتخب على 68% من مجموع أصوات الذين اشتركوا في الاقتراع، ولو أن حزب المؤتمر الوطني حصل على نفس النسبة في المجلس الوطني بدوائر الشمال، وحصلت القوى السياسية الشمالية الأخرى على النسبة الباقية وقدرها 32% بدوائر الشمال، لحدث توازن داخل المجلس الوطني الاتحادي، والمجالس الولائية، ورغم أن النظام رئاسي وليس برلمانياً، إلا أن وجود معارضة قوية داخل البرلمان يخلق حيوية، ويتيح رقابة يقظة صارمة، ويخشى الكثيرون أن يتحول المجلس الوطني القادم لخيال مآتة وتصبح المجالس الولائية هياكل خاوية، ولذلك فإن نواب المجلس الوطني ونواب المجالس التشريعية الولائية أمام تحد كبير ليثبتوا وجودهم، وهم أمام امتحان صعب، وعلى كل منهم أن يحدد موقفه وفق القضية المطروحة، وهو ليس مطالباً بأن يكون(بصمجي)، لأن التأييد الأعمى داء والمعارضة من أجل المعارضة هي مرض أليم، وأن الأسابيع القادمة والأيام الماثلة تشهد حراكاً ونشاطاً دافقاً، لتشكيل الحكومة الاتحادية والحكومات الولائية، وسيتدافع بعض الطامعين الطامحين بالمناكب، ولا يستحي البعض في إراقة ماء وجوههم بالملق الرخيص، والتقرب الذليل، وقد أذل الحرص أعناق الرجال، والأمل أن تنتقي القيادة أفضل العناصر وأصيلها، وأكثرها كفاءة وقدرة، ونأمل أن تستوعب عدداً من التكنقراط من ذوي الحس الوطني الصادق، والخلق الرفيع، ويمكن الاستفادة حتى من كفاءة وقدرات بعض الذين اخفقوا في الانتخابات، وتجب الاستفادة من تجربة الرئيس أوباما الذي عين منافسته السابقة هلاري كلنتون وزيرة للخارجية.. وأن النفس الإنسانية تتباين مراميها، وبعضهم يتسم بالإيثار، وبعضهم يميل لحب الذات وتبعاً لذلك قد تحدث حرب باردة ومنافسات صامتة، حتى بين المنتمين للحزب الواحد الذي اكتسح الانتخابات، ويظهر هذا جلياً في التسريبات التي تشير مثلاً إلى أن هذا قد يصبح رئيساً للبرلمان-(أي زحلقته)- وذاك أو ذلك قد يصبح رئيساً للوزراء، فمتى تصفو النفوس بين الحاكمين أنفسهم، وحتى تصفو بين الحاكمين الذين اكتسحوا الانتخابات، وبين بعض المعارضين الذين خالفهم التوفيق، ونأمل أن يشركوا في العمل التنفيذي، ويصل الاتفاق معهم للمشاركة في السلطة دون انشغال كثير بالمحاصصة، لأن المرحلة القادمة تقتضي وحدة الصف مع إبداء مرونة وتنازلات من هنا ومن هناك.