رامي محكر: مبارك ودالسما- تصوير: إبراهيم حسين لقي الشاعر محمد الحسن سالم حميد مصرعه في حادث سير على طريق شريان الشمال صباح الثلاثاء. وكان الشاعر في طريقه من نوري بالولاية الشمالية إلى الخرطوم، ونقل الجثمان إلى مشرحة أمبدة في أمدرمان.. ووقع الحادث عند الكيلو 167 في الطريق القومي «شريان الشمال». حيث كان حميد في طريقه إلى العاصمة للمشاركة في احتفالات شركة «زين» للاتصالات بعيد الأم وتدشين ديوان «بحر المودة» للشاعر السر عثمان الطيب. وتم تشييع الجثمان إلى مقابر البنداري بضاحية الحاج يوسف شرقي الخرطوم عند الخامسة والنصف مساءً. أرضا سلاح عرف الشاعر حميد بقصائده التي طوع من خلالها العامية السودانية، متناولاً عبرها مواضيع السلام والحكم والبسطاء. وتغنى للشاعر حميد العديد من الفنانين أبرزهم الراحل مصطفى سيد أحمد، بجانب فناني الطمبور صديق أحمد وميرغني النجار ومحمد جبارة ومحمد النصري. والشاعر محمد الحسن سالم حميد من مواليد مدينة نوري بالولاية الشمالية عام 1956، وتلقى تعليمه الأولي والأوسط بمدينة نوري، والثانوي بمدرسة عطبرة الشعبية الثانوية، وعمل في هيئة الموانئ البحرية منذ عام 1978 حتى 1992 متنقلاً بين الخرطوم وبورتسودان. ولحميد عدة دواوين منها: حجر الدغش، مجموعة نورا، الجابرية، ست الدار، مصابيح السما التامنة وطشيش. ومن أشهر قصائده «نورة» و»أرضاً سلاح» و»عم عبد الرحيم» و»عمنا الحاج ودعجبنا» و»ياتو وطن» و»من حقي أغني» و»الضو وجهجهة التساب» و»لبن الطيور» (الخبر اليقين بوّخ وانتشر.. أطفال القرى وعمال الحضر.. أدوه الطيور ودنو البحر.. إنصاعد سحاب وإندافق مطر..) كأنه كان عم عبد الرحيم يوم أمس.. مابين مصدق ومكذب.. في هدوء ودون كلمات وداع لعامة الشعب الذين عشقوا مفرداته وصارت عنوان لمعظهم رحل الشاعر محمد الحسن سالم حميد صوت من اصوات الشعب.. وقيثارة شعر العامية السودانية.. آخر الريد ودع حميد صباح يوم أمس ولاية الشمالية متجهاً للخرطوم وهو يردد المقطع الأخير من قصيدته (آخر الريد).. « ريدتي هاك كفنه فالدنيا دون أحباب غيمة الضباب دفنه».. وكان حميد ينوي السفر عبر أحد البصات بعد أن قطع تذكرة السفر، إلا أنه وافق على طلب لشخصين أرادا أن يكون هو ثالثهما وسافر معهما في عربتهما الصالون (آكسنت) جياد.. منطقة القبولاب التي يمر بها طريق شريان الشمال وتبعد عن مدينة أم درمان 169 كلم تقريبا رددت تلك المنطقة قبل أن ينتصف النهار «ياتو وطن في الكون الواسع دون عينيك راح يبقي وطن» رحل محمد الحسن سالم حميد هكذا بدأ الخبر ينتشر وكل يمني النفس بأن تكون شائعة.. لكن الموت كان حقيقة وكما قال صديقه الشاعر محجوب شريف في رائعته (يابا مع السلامة) وكأنه كتبها يوم أمس وهو يودع حميد « يا حليلك حليلك يا حليل الحكاوي تتونس كأنك يوم ما كنت ناوي تجمع لم تفرق بين الناس تساوي نارك ما بتحرق ما بتشد تلاوي ما بتحب تفرق من جيبك تداوي الحلم الجماعي والعدل اجتماعي والروح السماوي والحب الكبير». بالمشرحة مشرحة مستشفى أم درمان استقبلت جثمان الراحل.. حشود توافدت على المشرحة من مختلف الفئات وحدهم الحزن وفاجعة رحيل ملك العامية حميد.. كان هنالك من يحاول أن يظهر شيئاً من الصبر والجلد وآخرون غلب الدمع والبكاء والعويل صبرهم.. كل أصدقاء ومحبي الفقيد كانوا هناك لم يتغيّب أحد.. جاءوا وفي خاطرهم ألا يكون هذا الراحل حميد.. أمراء الحروف تناثرت الدموع على وجوههم، فبكى أزهري محمد علي.. محمد طه القدال.. هاشم صديق د.عمر محمود خالد عبد الوهاب هلاوي وآخرون من رفقاء المفردة الشعرية.. ومنذ وقت مبكر حضر رئيس نادي المريخ جمال الوالي والمطرب أبوعركي البخيت ومعتصم فضل وطارق البحر ونجوم المجتمع من دراميين ومطربين ورجالات الفكر والثقافة بالبلاد.. بكاء بحر المودة لم يستطع الشاعر السر عثمان الطيب أن يتمالك نفسه من البكاء. إذ ظل يذرف الدمع يستقبل جموع المعزين، وهو جالس بعربة الإسعاف التي كانت تستعد لنقل جثمان الفقيد إلى منزله ومن ثم إلى مقابر البنداري بالحاج يوسف.. كيف لا يبكيه وقد كان الراحل قادما إلى الخرطوم لكي يشاركه فرحة تدشين ديوانه (بحر المودة) تزامنا مع الاحتفال بعيد الأم. وكان من المفترض أن يتم تدشين الديوان مساء اليوم.. إلا أن القدر قال كلمته وترك الحزن والألم قصائد تستعصي على الشعر التعبير عنه. وصل معتمد محلية مروي عبد الكريم عبد الرحيم إلى المشرحة مباشرة بعد أن سمع نبأ الرحيل ولأن الراحل كان رمزاً لمنطقة مروي وللسودان ككل.. وبعثت بتعازيه الحارة إلى كل الشعب السوداني. وقال «هذا يوم صعب وحزين، إذ فقدت محلية مروي واحداً من القامات الشعرية وسهماً من سهامها» وأشار عبد الرحيم إلى أشعار محمد الحسن سالم حميد تخاطب كل فئات المجتمع السوداني وتناقش قضايا المواطن البسيط. كان مسرحاً وفناً وثقافة عميد أسرة الفقيد وخاله الأستاذ عبد الله رمرم تحدث إلى (الأحداث) وكلماته تختلط بالدموع وتخفي صوته أحيانا العبرات. حيث قال «رحيل حميد حزن عميق ولا يوصف، فهو من حرك التغيير السياسي الشريف في هذه البلاد وقصائده كانت مسرحاً وفناً وثقافة..»لتمنعه دمعاته من مواصلة حديثه معنا وآثر الانزواء بعيدا مطلقا العنان لبعض التنهيدات علها تخفف ما به من حزن.. القدال وأزهري والصمت النبيل كل من حاولنا التحدث معه عن الراحل أشار إلينا بصعوبة الكلام وكانت الدموع هي اللغة التي تحدثت وعبرت كبديل أصدق وأكثر عمقا من الكلمات.. حيث اكتفى الشاعر أزهري محمد علي بالإيماء برأسه بعدم قدرته على الحديث.. وكذا كان الحال مع محمد طه القدال.. البكاء وانهمار شلالات الدموع من عيني الكوميديان والشاعر جمال حسن سعيد منعته من الحديث مثل من سبقوه. فالحزن كان عميقا والألم كان أكبر وأكبر... موكب لزعيم عند الساعة الرابعة مساءا لم يقوَ عدد من الذين كانوا في المشرحة بمستشفى أم درمان على الحركة حينما تعالت صيحات التهليل والتكبير والجثمان فوق الأيادي يتجه صوب عربة الاسعاف التابعة لمنظمة رد الجميل.. تحركت الاسعاف لترتفع الأصوات مختلطة بالبكاء الحار. فالكل كان يردد «صحي الموت سلام ما يغشاك شر» وتحرك كل من كان بالمشرحة في موكب مهيب يدل على مكانة الراحل وكأنه موكب لأحد الزعماء.. امتلأ شارع (شندي فوق) بالحاج يوسف بالعربات وضاقت مساحات الحركة بجموع كانت تتوافد من كل اتجاه نحو منزل الفقيد.. ثم إلى مقابر البنداري حيث مثواه الأخير. مواراة الجثمان الثرى خيم الصمت على مقابر البنداري لحظة وصول جثمان حميد محمولاً على اسعاف منظمة رد الجميل التي أسسها الشاعر الفذ محجوب شريف مع اخرين منذ سنوات.. وفي المقابر سجي النعش للصلاة عليه وسط حشد غفير.. حيث صلى عليه عامة الشعب وأصدقائه من الشعراء والمطربين والمثقفين وظهر بين المشيعين السيد أحمد محمد عثمان الميرغني، إذ كان والد (حميد) أحد خلفاء مرشد السجادة الختمية السيد علي الميرغني بمنطقة نوري، وشوهدت أعلام الختمية ترفرف عاليا في المكان وسط حشد المشيعيين.. وطغت أجواء الحزن و البكاء على الحضور وعلت فوق كل شيء.. وزير الثقافة يأتي متأخراً شهد مراسم التشييع وزير الثقافة الاتحادي السمؤال خلف الله الذي وصل متأخرا إلى المكان بعد أن ووري الجثمان الثرى.. حميد في حدقات عيون البسطاء كما عاش الراحل محمد الحسن سالم حميد للشعب وللناس كافة. فكانت الصدفة ليكون للناس أيضاً في لحظات وداعه عندما صلى العدد الكبير على جثمان حميد. (أوراد) على قبر حميد ارتفعت نوبة البكاء بطريقة لافتة عند إهالة التراب على جثمان حميد، وازدادت حدة البكاء عند قراءة أصحاب السجادة الختمية (البراق) التي يتنمي اليها والد الراحل باعتباره أحد خلفاء الطريقة في الولاية الشمالية. وبكى الجميع بحرقة لمفارقة حميد وخاصة النسوة اللائي شهدن مراسم الدفن حميد وذرفن الدموع بلا توقف حتى بعضهن أغمى عليه من شدة الحزن..