لم نفق من وجعة رحيل الفنان محمد وردي حتى فاجأنا الموت بفاجعة أخرى ... وهو يختار بعناية فائقة ...محمد الحسن سالم حميد الذي رحل أمس إثر حادث حركة في طريق عودته من نورى إلى الخرطوم. محمد الحسن سالم حميد من الشعراء الذين زحموا براياتهم الآفاق ...وحشد عاطفتنا ووجدانياتنا بكلماته وأغنياته ذات البعد الفلسفي العميق. حميد يرحل منا الآن ..بعد أن ترك لنا ورثة كبيرة وجميلة من الشعر والمواقف والمبادئ. كان حميد شاعر مبدأ...وموقف ....يموت ألف مرة من أجل مواقفه. (الأحداث) تعيد خروجها لحميد قصداً للبحر ...وقد كان الخروج للبحر مع حميد في 29 نوفمبر 2010. تعالوا نخرج الآن ...قبل أن يسد علينا الحزن الطرقات. (1) النخيل في نوري يداعب النيل على الضفاف، وتلعب بجريده الرياح.. كأنه يرقص على أشعار محمد الحسن سالم حميد: يا مطر عز الحريق يا مصابيح الطريق يا المراكبية البتجبد من فك الموج الغريق جينا ليك والشوق دفرنا يا المراسي النتحوبيا لما ينشعوت بحرنا يا جزرنا وقيف عمرنا يا نشوغ روحنا ودمرنا يا المحطات الحنينة القصرت مشوار سفرنا كان النخيل يرقص على هذه الكلمات فيزداد طولا.. وترتفع هامته أكثر... أما ثمره فقد كان أكثر حلاوة.. بطعم هذه الكلمات تماما. في طريقنا إلى نوري التي تقع في الولاية الشمالية وتبعد عن الخرطوم بأكثر من 600 كيلو متر.. كان الطريق يفترش قصايد حميد... ونحن نطوي المسافات بهذا الإحساس.. (يا المحطات الحنينة القصرت مشوار سفرنا).. وكانت العيون تكتحل بهذه الكلمات : ويا ما شايلك بيني حايم أيوة شايلك.. بيني حايم في الأرض تكوين قضية.. في السما الأحمر..غمايم.. بي برد نغما السلامي.. رطبت حلق الحمائم طنبر النخل التبلدي راقص الأبنوس وصفق. وسوت الصقرية موجة خلت النيل هاجلو هوجة بشرت بالخير بلدنا ترى هل غرس محمد الحسن سالم حميد شعره في كل هذه الطرقات؟.. لماذا تدخلنا هذه الكلمات من كل جانب... لماذا تسكننا بكل هذا الشوق. كنا في طريقنا إلى نوري بصحبة صاحب الطيف الشاعر محمد سعيد دفع الله والكاريكاتيرست نزيه والأستاذ عادل أحمد إدريس.. نتوقف في كل قهوة تقع على الطريق لنشرب بعضاً من القهوة بنكهة شعر حميد.. وكانت قصايد حميد تتداول في القهاوى كما يقدم الصبية للركاب والقهوة. (2) ما أغرب هذا الرجل الذي قدم لنا الوطن في (كوب)... شربناه حليبا وماء زرقاء من النيل.. وشعرا من محمد الحسن سالم حميد. هذا الذي حضر الوطن في كل شعره. نحن في قهوة أم الحسن.. وهي قهوة شهيرة على الطريق.. تاريخها قبل استقلال السودان.. كانت هذه القهوة لامرأة.. تنجد المسافرين وتكرمهم وتقدم لهم الشاي والقهوة والكسرة.. كانوا يرتاحون عندها... رحلت هذه المرأة التي قدمت سيرة ما زال الناس يحكون عنها.. ومازال (المقهى) يقف شاهداً على ذلك. في تلك القهوة.. كان (الخبز) أغبشا... حجمه صغير.. يبدو واضحا إنه خال من (الكريستال).. لذا طعمه أحلى رغم غباشته.. والفول يقدم ساخنا عليه الزيت والشمار والبصل... تشعر بحلاوة طعم اللقمة في هذه المنطقة. وطفلة تخرج بين التلال.. ثم تختفي.. ثم تظهر في المقهى.. كأنها تحكي حميد... الناس هنا محتشدون بقصائده... مثل (ترامس) الشاي في مناسبات العزاء. لكن الطفلة كانت محتشدة بشيء أكثر إدهاشا.. وأعمق فرحا: شالت الشبال نسائم جددت زلفي القديم.. أمشي بالماشيبو أقاوم لا بتكبر رأسي فورة.. لاب تصغّرني الهزائم جنسي يا نورا ابن آدم حلمو في عالم مسالم لا الليالي الماها ليا.. لا الشماتات العليا لا البنوك المخملية لا تفاهات الحضارة.. لا عفاريت المدينة.. لا العمارات السوامق فوق ضهر ناسا فقارى كأن حميد أرضع هذه (الطفلة) بتلك القناعات ... مضينا ولكن أخذنا عبرة الطفلة معنا.. أصبحت كأنها دليلنا في السكة.. الناس هنا يشبعون بالقناعة. حميد... ترى هل قرحت النخيل بقصيدك.. وطعمت الأطفال ببعض كلماتك ليخرجوا إلى الدنيا بكل هذا السلام. (3) من القهاوى التي توقفنا فيها أيضا قهوة ود تمتام.. وهي من القهاوى التي تقع على طريق شريان الشمال.. حيث الحياة هناك شيء من البساطة.. مع شيء من (الشقاوة). تتوقف العربات في تلك القهاوى... يتناولون بعض الوجبات السريعة.. ويشربون القهوة والشاي ويصلّون ثم يتجهون إلى عرباتهم. الناس في المقاهي مع الشاي والقهوة يرشفون هذا النص: لا الالوهة الطوطمية لا البرندات الوسيمة ولا الأسامي الأجنبية بتمحى من عيني ملامحك.. وإنتِ جاية المغربية دايشي داقشي المغربية وشك المقبول مكندك.. سامسونايتك زمزمية ملامح الناس في المنطقة بهذا الرهق... (وشك المقبول مكندك)... رغم هذه (الكندكة) إلا أنه مقبول. أحاط بالعربة التي تنقلنا.. (شفع).. الفتر كان يبدو على ملامحهم وعلى ملابسهم البالية. هل هؤلاء الأطفال هم الذين قصدهم حميد: إنتِ يا الفطن الصحارى شفع العرب الفتارى البفنو الشايلة إيدن ويجروا كابسين القطارة يجروا بارين القطارة ولا سراب الصحراء موية.. لا حجار سلّوم موائد