المتأمل في تاريخ الحركة الإسلامية السودانية منذ بواكير شبابها الدافق بالأفكار والآمال والمتتبع لمراحل بريق اسمها، وازدياد قيمة أسهمها في بورصة السياسة السودانية منذ ستينيات القرن الماضي والنقلات الكبرى التي عبرت بها بنجاح زاخر من عواصف نظام مايو، واستفادتها من انعطافه العابر على القوى السياسية ودورها المؤثر بعد ذلك في إزاحته، ومن ثم انطلقت تنشر فكرها ورؤيتها لحكم السودان ولم تكتفِ بذلك، بل شاركت بذكاء قادتها ومهاراتهم الفائقة في المناورة والمراوغة، وسيطرتها على الصحافة بعناصرها صاحبة الأداء العالي في هذا المجال ذي الأثر الأكبر في تشكيل الرأي العام وقتها شكلت حتى الخطاب السياسي للقوى التقليدية الكبرى، فلم يكن أمامها غير أن تطرح برنامجاً إسلامياً وهو انتصار استراتيجي حققه الإسلاميون، وكانوا وقتها أقرب الى جماعة الضغط السياسي التي تماثل منبر السلام العادل مع الفارق الكبير في الأهداف والمعاني ولغة الخطاب، وقضية الجنوب من القضايا التي أولتها الحركة الإسلامية اهتمامها الكامل وعملت على استقطاب قيادات من قبائل وبيوتات لها أثرها الاجتماعي المؤثر والطاغي وما زال هذا العامل يحتفظ ببريقه وأثره. كانت الحركة الإسلامية هي الحزب الأوحد الذي يتولى أبناء الجنوب فيه ملف الجنوب مع تسخير المختصين كافة من الحركة في القضايا كافة التي تهم الإقليم، واستطاعت عبر منظمة الدعوة الإسلامية التي كان على قيادتها أطهر وأذكى وأنبل رموز العمل الإسلامي الطوعي، وحفظت أعمالهم وأسماءهم وتضحياتهم المجتمعات الإسلامية في أرجاء القارة الإفريقية كافة أمثال عبد السلام سليمان ومبارك قسم الله. إن قضية الجنوب ورؤية الحركة الإسلامية لها وموقفها الواضح من مطلب أهل الجنوب للفيدرالية الذي رفض من الأحزاب السياسية كافة كان موقعاً متقدماً جداً وعصي الاستيعاب على قيادات ومفكري قوى اليسار والقوي التقليدية. ويمكن القول إن هذه القوى كانت تنتظر لمساندة الحركة الإسلامية لمطلب الجنوب بالفيدرالية ينطوي على خطة استراتيجية تدفع بالجنوب للانفصال ولكنها اكتفت بالرفض وحده ولم تقدم بديلاً مقنعاً للجنوبيين، كان واضحاً أن الحركة الإسلامية تنظر لقضية الجنوب ببعدها الاستراتيجي الإقليمي والدولي، وأن القوى التقليدية واليسار يتفقون على استراتيجية واحدة هي الوقوف ضد كل ما يطرحه الإسلاميون مع عجزهم عن تقديم طرح ينافس طرح الحركة الإسلامية. ظلت هذه القوى تعكف عليها حتى الآن، وظهر لاحقاً أن موقف الحركة الإسلامية من الفيدرالية لم يكن تكتيكياً بل كان استراتيجياً موافقاً لرؤاها الواضحة كافة لقضايا السودان كافة التي اكتفت الأحزاب السياسية بالإشارة إليها دونما الاقتراب منها بشجاعة. نعم أكدت الحركة الإسلامية أن موقفها من الفيدرالية كان من صميم رؤيتها لكل قضايا السودان بوعي استراتيجي مستوعب لما يحيط بالوطن من تحديات ومخاطر حيث طبقت النظام الفيدرالي على كل السودان، وهي تجربة بالرغم من الحديث الكثير عن السلبيات التي صاحبت مسيرتها وما زالت تظل تجربة شكلت نقلة نوعية ومفصلية في مسار العمل السياسي السوداني وتجربة ينظر لها كثير من الجوار الأقرب والأبعد بل على المستوى الدولي بغيرة وحذر وحسد. وشملت الفيدرالية أهل المطلب القديم في جنوب البلاد شملتهم به الحركة الإسلامية وكان أثره المعنوي كبيراً وأثره المادي هو الأساس الذي يبني عليه الجنوبيون الآن خططهم التنموية وتنظيمهم السياسي. فكل مراكز الانتخابات والاستفتاء كأكبر وأهم عمليات سياسية انجزت في الجنوب في الخمسين عاماً الماضية قامت على بنيات تحتية وكفاءات بشرية وفرتها تجربة الفيدرالية في جنوب السودان. إن تطبيق النظام الفيدرالي شكل أكبر حائط صد متقدم وناجز في وجه كل الدعاوى والتحديات التي واجهت السودان في تسعينيات القرن الماضي مثل الحرب التي انطلقت بشرق السودان التي وجدت القيادات السياسية والعسكرية والأجهزة الأمنية والإعلامية وأشكال العمل المؤسسي كافة أكثر انتشاراً وفعالية ولا أتصور كيفية التصدي السريع والمباشر لقوات المعارضة المدعومة وقتها بجيوش دولة الجوار بغير وجود ولاية كسلا، البحر الأحمر والقضارف. وقضية دارفور شكل الحكم الاتحادي دور المتصدي الأول ذي الأثر الشاخص المذكور غير المنكور لمشاركة سكان الأقاليم في السلطة. فقد قابل كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة في زيارته الشهيرة لولاية دارفور والمبعوثون الدوليون كافة من أمريكا وروسيا والصين والاتحاد الأفريقي والأوربي وجامعة الدول العربية ولاة دارفور عبر مراسم رسمية بصورة متفق عليها، ولا سبيل للالتفاف عليها. ومثل حضور ولاة دارفور وظهورهم اللافت في القنوات الفضائية العالمية علامات إبهار ودهشة وتساؤل لمستوى التقدم السياسي الذي مثله النظام الفيدرالي في السودان كنظام متقدم يشير بغير عناء الى مشاركة واسعة في السلطة والثروة كان لابد من الوقوف كثير عند الفدرالية ودعم الحركة الإسلامية لها؛ لأن الأحزاب التقليدية واليسار لا زالت تتعامل بحذر وسوء نية مع كل طرح يدفع به الإسلاميون للساحة السياسية، يمكن القول إن الفيدرالية هي المشروع الثاني الذي ينجح الاسلاميون في جعله محل اجماع ومكسب لا يسمح الشارع السياسي بالتنازل عنه بعد الدستور الاسلامي، ولكنهم يقبلون بإدراك ووعي بل ويبادرون بالحديث عن حاجته للتقويم والدراسة بغرض التطوير وبمثلما شكلت الفيدرالية صدمة للقوى السياسية السودانية، فقد شكلت قلقاً بالغاً لصناع الاستراتيجية الجنوبية للتعامل مع الشمال. إن النظام الفيدرالي كان له أثر عظيم في الجنوب، حيث ساهم في بسط الأمن وأحداث تطور تنموي غير مسبوق لاستيعاب وتدريب الكوادر البشرية واستقطب مجموعات كبيرة من السلاطين. الوعي وحده لا غيره ما تخشاه الحركات المتمردة، فهو يبعثر إتباعها لأنه يكسر قاعدة الولاء والطاعة العمياء والغربيين الذين استثمروا أموالهم وكلفوا مراكز دراساتهم لإبقاء واقع معين يسهل إنفاذ خطتهم الإستراتيجية استشعروا خطورة المتغير الكبير ذي الأثر السريع على المنظومات الاجتماعية وبحق، فقد شكل الحكم الفيدرالي في الجنوب مدخلاً نادراً لاتفاقية الخرطوم للسلام والتي مثلت هي الأخرى باباً كبيراً للخروج من سيطرة قرنق، ودارت صدامات عنيفة كانت الوعي بواقع ومستقبل الجنوب هو دافعها؛ مما جعل الدول الغربية تستشعر الخطر الداهم، فاستعجلت أحدث تسوية بين الجنوب والشمال. إن المفاوضات الطويلة التي أدارها الغرب بكل مراكزه الإستراتيجية مع الحكومة السودانية التي كانت تنطلق في الحوار من رؤية إستراتيجية لقضية الجنوب قبل وصولها للحكم عبرت عنها بمبادرتها التي أطلقتها عقب وصولها للسلطة عبر مؤتمر الحوار الوطني ومفاوضات أبوجا وجولات الإيقاد بعد ذلك، ومن خلال عمل منظماتها الطوعية وعملها السياسي في الجنوب الذي مكنها من استمالة الشلك والنوير عبر قياداتها المؤثرة سياسياً وعسكرياً وجهوياً كانت الثفة زادها والوحدة مرادها. ويمكن القول إن الحركة الإسلامية لم تكن تجمع في رؤيتها على قضية أكثر من إجماعها على حل قضية الجنوب المفارقة الصاعقة والمباينة الواضحة أن القضية نفسها وبخبث ودهاء الغرب بعد دراسته للحكومة التي تمتلك كل معطيات القوة والتمييز المذكورة سابقاً، نجح في أن يجعل القضية نفسها أكبر نافذة يدفع عبرها خطوط التباعد بين قيادات ومفكري الحركة الإسلامية بدا واضحاً منذ بداية مراحل التفاوض الأولى التي أدارها الدكتور غازي صلاح الدين؛ وفقاً للمنهجية الراسخة والواضحة للتعامل مع قضية الجنوب والغرب، الذي جاء على عجل لإنفاذ التسوية بعد مفاجئته باستخراج البترول الذي شكل صدمة لأحزاب المعارضة وعربون صداقة مع الصين وعنصر استدعاء مباشر وعاجل لأمريكا وحلفائها الغربيين ليس خوفاً من تطور مقدرات الجيش السوداني بعد تدفق أموال النفط، فقد كان سلفا يسيطر على اكثر من 80% من مساحة الجنوب، ولكن التقدم السياسي الكبير لصالح الخرطوم على أرض الجنوب واستباقاً للمشاريع التنموية التي يمكن أن تحدثها الخرطوم في مناطق النفط التي تتبع للنوير والشلك؛ الأمر الذي قد يعجل بانهيار الحركة الشعبية (وكنا قد شاهدنا حالة مدينة قوريال عندما زارها وفد من حكومة الشمال بعد الاتفاقية كانت حالة تستعدي الأسى، وشاهدنا زيارة قرنق لمدينة فلج في اجتماع مجلس الوزراء الشهير بها حيث أبدى قرنق اندهاشه وعدم تخيله لوجود مثل هذه المباني بالجنوب). كان خوف الغرب من انهيار الحركة الشعبية سياسياً بعد انهيارها عسكرياً والغربيون متابعون لأساليب الخرطوم الذكية في الاستقطاب فكانوا قلقين أن يعاود الشلك عبر لام أكول والنوير بقيادة رياك مشار الاتفاق مع الخرطوم، فقد مثل المال العائق الأكبر في انفاذ اتفاقية الخرطوم للسلام وبعد البترول لا وجود لعقبة المال ويعرفون حجم المرارات الطافحة بين قرنق وهذه القيادات. نعم القضية التي كانت الحركة الإسلامية متوحدة حولها رؤية ودفعاً لانفاذها احتشد غالب أهل السودان مناصرة ومؤازرة لها عبر المشروع الجهادي الكبير. فكر الغربيون جيداً واهتدوا الى أن نقطة القوة نفسها لابد من تحويلها الى نقطة ضعف. فكانت إزاحة غازي صلاح الدين من ملف التفاوض وكان المقصود وقتها إزاحت الحوار المبني على منهج وإستراتيجية الحركة الشعبية والحكومة في الشمال والاستعاضة عنها بمنهجية عبقرية ونجومية الأفراد كانت عقبة ناكاورو كان سلفاكير يقود وفد الحركة الشعبية وغازي يقود وفد الحكومة السودانية، سلفاكير نفسه كان يدير الحوار وفقاً لمنهجية المطلوبات الجنوبية وليست الغربية فقد كان ضد انضمام التجمع الوطني للمفاوضات وضد مناقشة قضايا جبال النوبة والنيل الأزرق وكادت خلافاته مع قرنق أن تصل حد المواجهة العسكرية. أمريكا وحلفاؤها لم يكونوا نبلاء ولا ساذجين ليقدموا خدماتهم مجاناً للجنوب والشمال على السواء. كانوا يعملون بخبث لا تشك معه جوبا ولا الخرطوم بأنهم يقومون بكل هذا لأجلهما فقط لا غير. أحدث ابتعاد غازي صلاح الدين وسلفاكير ميارديت ارتياحا بالغا للقوى الغربية، فقد أوضحت هليدا جونسون أن استثمارهم الناجح كان في العلاقة الشخصية التي ربطت بين طه وقرنق وكلاهما عمل تحت تشجيع كبير ووعود أكبر بمكافآت دولية حال الوصول لنهايات سعيدة. وكلاهما عقله بنيفاشا وقلب كل منهما بجوباوالخرطوم. خوفاً من تحركات لمراكز قوى أبدت بوضوح رأيها حول المفاوضات وتحفظها على المنهجية التي تدار بها. كان سلفاكير يمثل تهديداً مباشراً لقرنق وسرت شائعات بعزمه قيادة انقلاب عسكري وشائعات إصدار قرنق أوامر باعتقاله. لم يكن هو الأول الذي يختلف مع قرنق كانت تصيفة الخصوم هي سلاح قرنق دوماً. ولكن سلفاكير- غير- فهو قائد الاستخبارات وهو ابن قبيلة قرنق نفسها. كان غازي صلاح الدين مرشحاً بارزاً لأمانة الحركة الإسلامية فهو مفكر بارز بين أقرانه وموقفه القوي في جولات التفاوض الأولى في ميشاكوس زاد من شعبيته في أوساط الإسلاميين خصوصاً بعد مغادرة دكتور الترابي لصفوف الوطني، فترك فراغاً كبيراً في ساحة الفكر في هذا الحزب؛ مما جعل غازي يمثل الملهم لشباب الوطني والحركة الإسلامية (الكيان الخاص) جاء علي عثمان مسرعاً، وكان بنيفاشا يتابع أخبار الخرطوم بقلق كبير، هذا ما تابعناه في صحف الخرطوم، وما أكدته لاحقاً هيليدا جونسون في كتابها الماتع اندلاع السلام. عبر كلا الرجلين الجسور التي تخوفا منها كثيراً قرنق وبمساعدة أمريكية نجح في إبقاء سلفاكير هادئاً وعلي عثمان انتخب أمين عاماً للحركة الإسلامية. جونسون أبانت أن الرجل الذي مكث الشهور الطوال من أجل إيقاف إراقة الدماء كان يبدي قلقاً بالغاً على موقعه في الحركة الإسلامية. وأكدت أن موقفه بالشمال حسب معلوماتها قوي وهذا ما تأكد لاحقاً. سلفاكير كان ممسكاً بمفاصل العمل الأمني؛ مما شكل خطراً على محاولة أنقاذ الحركة المنهارة عسكرياً وسياسياً مما دفع الغربيون لاسكاته بحزم. علي عثمان شكا لجونسون حسب ما ذكرت في كتابها قائلاً: إن إقناع أجهزته الأمنية أحياناً يأخذ وقتاً أكبر من وقت الاتفاق مع الحركة الشعبية. قد يكون ذلك منطقياً لطبيعة عمل هذه الأجهزة، ولكنها رأت أن تجعل عبر هذا القول شرخا آخر بين الرجل ومجموعته الأمنية. وقع الاتفاق النهائي واحتفل السودانيون بطريقة لم يحتفلوا بها من قبل. كان خطاب قرنق عند التوقيع واعياً ومدركاً لمالات المستقبل في طريق الاتفاق قرنق وليس علي عثمان هو من قال الشيطان في التفاصيل! كان خطاب رئيس الوفد الحكومي عقب عودته بالساحة الخضراء مرتجلاً وليس مكتوباً كان حماسيا وعاطفياً لا يلامس الواقع. لا تفاوض مع من حمل السلاح برنامجنا تطبيق كتاب السلام هذه الاتفاقية حلت كل مشاكل السودان. كان واضحاً أن الوعود الغربية الشفاهية التي رددت على مسامع المفاوض الحكومي على مدى أكثر من عام من الزمان حاضرة بقوة، ولكن الدول نفسها التي كالت الوعود هي من قامت بالاستثمار السالب في قضية دارفور. ولم تتجاوز الخرطوم آهاتها المكتومة وأثر الخلاف الصامت الذي أحدثه أكثر الملفات التي انجزت فيها الحركة الإسلامية رؤيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية منذ زمان بعيد؛ حتى أطلت قضية دارفور والغرب الذي فتح نافذة لتباعد قيادات الخرطوم واختلافهم حول استراتيجيتهم وتكتيهم المفضي اليها. عاد ليمارس وبشكل أكثر احترافية وحذاقة لعب هذا الدور في قضية دارفور كان التيار المستمسك بالبعد الاستراتيجي في النظر للقضايا كافة رافضاً وبشدة دخول القوات الدولية لدارفور. فكانت المحاولة من الغربيون عبر محاورة مهندسي نيفاشا كانت زيارة طه الشهيرة لبروكسل، حيث مقر الاتحاد الأوربي والتقائه بخافير سولانا مفوض الاتحاد الأوربي، وكانت الإشارات الخضراء حول قبول دخول القوات الدولية كانت فريق نيفاشا مهموماً بالحصول على وعود الغرب بعد انجاز سلام الجنوب. وكانت مفاوضات أبوجا تدار تحت ضغط دولي ورأي عام محلي مصنوع يطالب بضرورة أن يتولى الذين انجزوا اتفاقية السلام بنيفاشا مفاوضات دارفور، دار حديث كثير حول إحالة ملف دارفور الى علي عثمان طه. وكانت مشاركة طه في مفاوضات أبوجا قد تزامنت مع حصارعسكري للمعارضة التشادية على انجمينا مدعوماً من الحكومة السودانية، وكان واضحاً أن الصدفة لم يكن لها حظ في تفسير ما جرى ولكن حركة العدل والمساواة المقصود الفعلي بهذا الأمر كضغط عليها اختارت المبدأ الأخلاقي على حسابات السياسة لم توقع بل انسحبت من التفاوض وفضلت مساندة الحليف الأهم وقتها أدريس دبي. عاد طه للخرطوم واستمر التفاوض وتم توقيع اتفاق أبوجا بين مجذوب الخليفة ومني أركو مناوي أمريكا كانت حاضرة عبر مبعوثها روبرت زوليك الذي هدد بمعاقبة المخالفين للاتفاقية، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث البتة. من الواضح أن أمريكا رأت أن دعمها لهذه الاتفاقية يساهم بشكل مباشر في تقوية التيار المتحفظ على تدخلها في الشأن السوداني وصاحب الريبة والاحتراز الكبير من اتفاقية نيفاشا. اتفاق الدوحة الأخير الذي وقعه د. غازي صلاح الدين أيضاًَ لم يتواضع الأمريكيون أن يمنحوه حتى كلمات طيبات بل حشدوا كل معارضي اتفاق الدوحةبواشنطن في مؤتمر تم عزل الحكومة السودانية منه. بعد كل هذه التجارب يجد الناظر للأسلوب الأمريكي المتبع مع حكومة الخرطوم يتبع منهجية خطيرة ومستمرة دونما التفات لها من الخرطوم. ومن خلال متابعتنا للمنهج الأمريكي مع الخرطوم يتمثل في (إن أي مدخل ولو كان لتحقيق اتفاق أو تسوية يجب أن يكون مدخلاً لإحداث أثر سالب في الخرطوم أكثر بكثير من أثر الموجب للاتفاق أو التسوية التي أحدثت عبره)، وعلى الخرطوم أن تعي ذلك وتعالجه بصورة تضمن الحفاظ على مصالح البلاد وأمنها القومي. إن المحكمة الجنائية الدولية والتي تمثل إحدى الأدوات التي تستخدمها أمريكا في تعاملها مع السودان أصدرت بيان مع مطلع هذا العام تنفي فيه وجود لائحة تضم واحداً وخمسين مسئولاً سودانياً وبعد شهرين تصدر مذكرة استدعاء بحق وزير الدفاع السوداني، التطور اللافت والخطير بعد أن كانت أمريكا تستخدم هذه المحكمة في مخاطبة الحكومة السودانية أصبحت تخاطب تيارين بداخل حكومة الخرطوم؛ مما يؤكد رهانها الكبير والوحيد الذي يمكنها من السيطرة على السودان يتمثل في إحداث إنقسام بحكومة الخرطوم. ولكن المخيف للمتابع للحراك الرسمي في الجنوب والشمال يجد أن هذا الأسلوب الأمريكي أضحى يتحرك بقوة دفع تلقائيه في إطار صراع مراكز القوى داخل الحكومتين. وهذا ليس صدفة، فقد سبقت الإشارة في بداية المقال أن أمريكا والدول الغربية وعند بداية التفاوض بنيفاشا حولت الطريقة في الحوار من الاعتماد على منهجية الطرفين بالاعتماد على قدرات مجموعتين لم يكن ذلك لقصور في المناهج المطروحة من الحركة الشعبية بقيادة سلفاكير والخرطوم بقيادة غازي بل كان ذلك نفسه منهجاً مقصوداً للتعامل بل مستقبلاً أن اتفاقية أديس أبابا الإطارية التي وقعت بين د. نافع ومالك عقار وصفها كثير من المحللين بالنجاعة وتم رفضها من الخرطوم بتأثير من جهه ما. التفسير الوحيد يندرج أن الموقعين على الاتفاقية لم يكونوا في أصحاب المنهج التفاوضي الأمريكي. الاتفاقية ممتازة وأمريكا لا تساعد للوصول لمثل اتفاقية بهذا الوضوح وعقار لم يكن يشكل أي قيمة بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية في شمال السودان بينما الأهمية الكبرى لمنطقة كردفان الكبرى. بعد إحداث النيل النيل الأزرق لم تبدِ أمريكا أي اهتمام المنطقة وسكانها كما هو الحال لجنوب كردفان حيث النفط. فقط أرادت استخدام عقار كوسيلة ضغط إضافية لانفاذ خطتها في جنوب كردفان ذات الأهمية الاستراتيجية، وهو الأمر الذي عجل باعتقال تلفون كوكو وعجلت بعودة عبد العزيز الحلو من أمريكا بعد مفارقته للحركة الشعبية. لذات الأسباب التي اعتقل بها تلفون كوكو! كان اتفاق نافع عقار اتفاقاً ممتازاً لا يحمل في جوفه القنابل الأمريكية مثل الحريات الأربع والجنسية المزدوجة باعتبار أنه كان شمالياً خالصاً لم يكن الجنوب طرفاً فيه. إن منهج الحوار المبني على المصالح الوطنية الذي غيب بنيفاشا أضحى موجوداً وبقوة وهذا ما أحدثه الانفصال. إن لجنة ثامبو أمبيكي ورئيس الوزراء الأثيوبي مدركون لهذا المتغير الكبير والمهم ويتعاملون مع الطرفين باحترام كامل لمناهجهم التفاوضية! كانت جولة التفاوض الثانية بأثيوبيا طويلة ولا تحمل إشارات موجبة للوصول لتفاهمات خصوصاً بشأن النفط فكانت قمة البشير وسلفاكير ومن المعروف بداهة في الأعراف الدبلوماسية والممارسة السياسية ان لقاءات الرؤساء إن لم يكن من المؤكد نجاحها. فالأفضل تأجيل مثل هذه اللقاءات لأعلى سلطة في البلدين؛ لأن فشلها يعني ترقب الأسواء وهو ما حدث بالفعل، حيث دعا كل رئيس شعبه وقواته العسكرية للاستعداد للحرب كان من المحير والمربك موقف رئيس الجنوب في تلك المفاوضات، حيث اتفق تماماً مع البشير وبحضور ورؤساء الإيقاد وعاد وتنصل عن الاتفاق في اللحظات الأخيرة. كان واضحاً أن جهة خارجية ذات تأثير كبير حرضت سلفاكير على عدم الاتفاق مع البشير. ما الذي حدث في الجولة الأخيرة التي انتجت اتفاقاً لم يكن يتوقعه حتى المتفاوضون أنفسهم؟. فقد حضرت أمريكا بقوة ويبدو أنها نجحت في إعادة منهجها في إدارة التفاوض وهيلدا جونسون بعد غياب طويل حلت بالخرطوموجوبا و(أديس أبابا) باقان أموم لا سلفاكير كان هو خميرة العكننة مع الشمال و ما زال يمارس الابتزاز الرخيص لم تمر أسابيع على اتهامه للشمال بسرقة النفط ولم تمر أيام على اتهامه للخرطوم باسترقاق الجنوبيين! قيادات نافذة في الوطني ظلت تردد باستمرار أن الجنوب بحاجة لرجال دولة بل بوضوح أكثر كانوا يقولون أن قيادة باقان للتفاوض من طرف الجنوب مؤشر لعدم جديتهم وينذر بتطاول الخلاف. ما الذي حدث؟ هل أرادت أمريكا أن تقول للخرطوم عليكم بالتعامل مع باقان فهو اليد الأمريكية في الجنوب؟. سربت صحافة الخرطوم في أواخر العام الماضي طلباً لنائب رئيس حكومة الجنوب د. رياك مشار للاتقاء بعلي عثمان طه لم يتم هذا اللقاء ومشار نفسه هو من أبعد باقان عند حفل استقلال الجنوب خوفاً من أن يوجه إساءات للشمال ولرئيسه. هل الصراع بالجنوب واتهام باقان باختلاسات مالية والحملة الإعلامية من القوى السياسية الجنوبية وأصوات من داخل الحركة الشعبية ضد باقان الذي وصفته بأنه يشكل خطرا لمواقفه العدائية تجاه الشمال جعلته يحاول الظهور كرجل سلام ليطابق صفته الدستورية كوزير لشئون السلام بحكومة الجنوب؟. هل يريد باقان إعادة تسويق نفسه كبطل قومي على مستوى الجنوب لكن الناظر للحركة الشعبية وتياراتها يجعل قراءات أن يفعل ذلك بقوة دفع ذاتي أمراً بعيداً، أم أن أمريكا عمدت لإعطاء انتصار معنوي لعناصر نيفاشا في الشمال والجنوب بهذا الاتفاق؟ وهل يمكن أن يقرأ كرسالة تحذير لسلفا والبشير بعدم إبعاد طاقم نيفاشا من ساحة النفوذ السياسي في الحكومتين؟! حيث تشتعل حرب كبرى على باقان أموم بالجنوب بحجة أنه يقودهم لحرب جديدة مع الشمال بلا أسباب منطقية ويرون أن مساندته لحركات دارفور والنزاع في جنوب كردفان والنيل الأزرق أمر لا صلة للجنوب به، وهذا كان بسبب المنهج الأمريكي الغامض الذي يضمن مصالحه ويجعل الجارين الجديدين على حافة الهاوية باستمرار والذي فُعّل في بدايات نفياشا عبر إبعاد غازي صلاح الدين وسلفاكير. وأيضاًَ يتعرض مهندسو نيفاشا في الشمال لهجمة شرسة من منبر السلام العادل. وحسرة مكتومة من الشعب السوداني كافة الذي يعتقد أن نيفاشا أعطت الجنوب كل ما أراد ولم تعطِ الشمال شيئاً غير هدنة من الحرب لخمس سنوات وعوض عنها بحرب دارفور الأعنف ولم تحسم بعد قضية أبيي وجنوب كردفان. إن الضغوط الأمريكية على البشير والهجوم المباشر عليه من وزيرة الخارجية الأمريكية كانت نتيجته إعلان البشير التعبئة العامة, فتذكر السودانيون انخداعهم في نيفاشا. هل أرادت أمريكا بإيقافها للبترول أن تشكل رأياً عاماً ضد حكومة الخرطوم يطيح بالبشير وأزمة اقتصادية بالجنوب تزيح سلفاكير. يبدو أن الإستراتيجية الأمريكية كانت تستهدف تحقيق ذلك ولكن كانت النتائج عكسية، سلفاكير والبشير كل منهما موقفه ازداد قوة ورسوخاً. أمريكا وفور اعلان الاستنفار لقوات الدفاع الشعبي تحدث مبعوثها بالسودان عن حضه للجبهة الثورية أن تجنح للسلم قائلا: لن نجازف باستعداء العرب والمسلمين في الشمال. إن قضية دارفور كان الإعلام العالمي في بداياتها والخطاب الإعلامي لحركات دارفور يتحدث بوضوح عن طرد العرب من دارفور، لكن تجربة دارفور أثبتت لواشنطن ومراكز دراساتها أن العرب في السودان أكثر بداوة وشراسة وأن هزيمتهم عصية التحقق. هل واجهت الخطة الأمريكية لإسقاط النظام في الخرطوم عقبات فآثرت تأجيلها لوقت قادم؟ هل كان لتوجيه الرئيس للجيش بدخول كاودا أثره في هذا الاتفاق؟ فدخول الجيش لهذه المنطقة يقطع الطريق لخطة التدخل الدولي في جنوب كردفان. هل أدرك الجنوبيون أن الأمريكيين لم يعد لديهم وقت للالتفات لمواقفهم غير المسئولة؟ وأن إسرائيل هي الأولوية التي تستقطب اهتمام مرشحي الرئاسة الأمريكية، وهذه المرة بالتحديد ليست كسائر الجولات الماضية فاللوبي الصهيوني لا يرد من مرشح الرئاسة الأمريكي القادم ضمان أمن إسرائيل ولكن مساعدتها لضرب إيران. هل هناك متغيرات أدركها الجنوبيون أنفسهم جعلتهم يتراجعون؟. فبعد اتفاق سلفاكير مع الرئيس الكيني بتصدير النفط عبر ميناء لامو، اندلعت المظاهرات الرافضة لهذه الخطوة من السكان المحليين. وأغلقت يوغندا حدودها مع الجنوب بحجة تعرض أسواقها لندرة في السلع بسبب التدفق الكبير نحو الجنوب، لم يكن هذا التبرير مقنعاً لأحد فيوغندا ظلت على مدى أكثر من ستة أعوام تمد الجنوب بكافة السلع التجارية وحققت فوائد اقتصادية كبيرة. لم تنتظر يوغندا رأي المحللين في النظر لخطوتها وصدقية مبرراتها، حيث أبدى الرئيس اليوغندي استغرابه لتصدير نفط الجنوب عبر كينيا دون المرور عبر أراضي بلاده. وبعدها بأسبوع منحت يوغندا حق اللجوء السياسي لأكثر من 60 مواطناً جنوبياً قالت إن حياتهم معرضة للخطر وهذا الإجراء له تفسيره فى العلاقات الدولية. على الحكومة السودانية ومراكز دراستها أن توسع زوايا نظرها وتنطلق بقوة وحزم لتحفظ مستقبل آمن لمصالح الوطن. إن فوائد وخسائر كل طرف من الاتفاق تحتاج لمقال آخر والآن أردنا الوقوف على القيمة والدلالة السياسة لهذا الاتفاق. إن أمريكا وهي تجابه تحديات متصاعدة وملحة وكحال أصدقائها في الخرطوم و جوبا تعمل تحت ضغط اللوبي المعارض للشمال في واشنطن. خرجت بانتصار معنوي كبير للنيفاشيين واكتفت بهذا المغنم لتهدئة جماعات الضغط في أمريكا – المحير في الأمر أن الدعوى لالتقاء الرئيسين التي أخذت شكل الأمر الواجب النفاذ صدرت من المتفاوضين حتى قبيل التوقيع على الاتفاق نفسه ومن ثم تحديد مكان اللقاء بجوبا، فالسؤال الذي يطل بعنف كبير ولطف يسير هل كانت أمريكا بتشجيعها غير المعلن ودورها الواضح في عرقلة اتفاق (البشير - سلفا ) السابق - حول النفط كانت تريد الإطاحة بهما معاً عبر ضربة مزدوجة؟ وبعد اصطدامها بعقبات عرقلت خطتها اكتفت الآن بإحراجهما معاً لتصورهم أمام شعوبهم كلوردات حرب لا أكثر بعد الفشل المتوقع في لقائهم القادم بجوبا.