اتفاقية تقرير المصير المفصلية قررت كل من واشنطن ولندن وأوسلو الانخراط في مفاوضات السلام بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش التابع لها، على المستوى السياسي، وإعطاء دفعة قوية لهم للمضي قدماً بعملية السلام، وقد مثّل «الترويكا» منذ يناير 2002م كل من ولتر كانستاينر، كلير شورت وشخصي وكلنا من المؤيدين لعملية السلام، وفي أواخر أبريل 2002م، قبل فترة وجيزة من قرار الولاياتالمتحدة بدعم المفاوضات، التقى ثلاثتنا بنيويورك في مقر البعثة الأمريكية لدى الأممالمتحدة، وكان الهدف من ذلك الاجتماع التفاكر حول كيفية إعادة تنشيط مفاوضات السلام التي كانت أقرب ما تكون إلى الاحتضار في ذلك الوقت، وقد اتفقنا في ذلك الاجتماع، الذي حضره كذلك مستشارونا الرئيسيين، على المبادئ الأساسية، وعلى بعض المواقف المشتركة من عملية السلام، وعلى خارطة طريق لتدعيم الهيكل الإطاري لمفاوضات السلام، بما في ذلك دعم الترويكا للوساطة التي تقوم بها «الإيقاد». وكانت إحدى المسائل التي تطرّقنا إليها في ذلك الاجتماع هي ما إذا كنا سنتمسك بأن يكون دورنا بارزاً بحيث يراه الجميع، من قبيل أن نندب منسقاً من الدول الثلاث ليعمل إلى جانب الجنرال «سيمبيو» وسيطاً مناوباً، إلا أننا رأينا وإلى حين إخطار آخر، أن نرسل مبعوثينا كمراقبين للمفاوضات، وأن ندعم عملية التفاوض بخبراء فنيين، وفي غضون ذلك نعمل بصورة مستترة من أجل ممارسة الضغط على الطرفين المتفاوضين لإبداء الجدية المطلوبة للتوصل إلى اتفاق، هذا وقد أظهر تطور الأمور لاحقاً أن اجتماع نيويورك ذاك، والمنهج الذي اتفقنا عليه بدفع عملية التفاوض قد كانا حاسمين بالنسبة لجهودنا المشتركة في المفاوضات. ورغماً عن أنه كان من الواضح بالنسبة لنا أنه لا غنى عن دعم خارجي لعملية التفاوض، إلا أنه كان يتوجّب علينا الحذر، فذلك قد يثير مخاوف الأطراف الإقليمية الداعمة لتلك العملية، سواء أكان ذلك الجنرال سيمبيو نفسه، أم كلينا أم قادة دول الإقليم الأخرى بشأن استيلاء الشركاء الغربيين على عملية المفاوضات وكانت سكرتارية، «الإيقاد» على استعداد لبدء المفاوضات وبالنظر إلى قرارات قمة الإيقاد، فإن دورنا كان يجد قبولاً من كافة الأطراف بدأت المفاوضات باجتماعات فنية تمهيدية في نيروبي، في مايو 2002م، وقد كان التركيز في تلك الاجتماعات على جدول أعمال التفاوض والجوانب الإجرائية فيها. ثم تتابعت تلك الاجتماعات بصورة مستمرة، إلا أن الجانب الحكومي رفض التوقيع على المسودة التي تم إعدادها، ولم يتم التوصل إلى اتفاق إلا بعد أن تم تصعيد مسألة وحدة السودان إلى جدول أعمال التفاوض، بينما تم إرجاع النقطة الخاصة بتقرير المصير إلى أسفل القائمة، وتم حذف النقطة الخاصة بوقف إطلاق النار من جدول الأعمال، وقد حُذفت هذه النقطة بناءً على طلب من وفد الحركة الشعبية لتحرير السودان، علماً بأنها كانت ترى أن التمسك بكرت الضغط العسكري هو أكبر ميزة لها، وما كان لها أن تتخلص منه بسهولة ويُسر. وكان كل من الجانبين قد بعث بوفد وفريق للتفاوض أقوى بكثير مما كان عليه الحال في الجولات السابقة تحت الإطار التفاوضي للإيقاد، وكان المفاوض الرئيسي الجديد الجنرال «سيمبيو» مدعوماً بصورة أفضل من ناحية فريق السكرتارية الذي يعمل معه والذي كان مدعوماً بخبراء دوليين وفنيين قامت بتوفير التمويل اللازم لهم «الترويكا» ودول أخرى. وعليه، فإن «الإيقاد» وضعت جدول أعمال محدّد لتفاوض مستمر بتواريخ محدّدة، يمتد على فترة أربعة أو خمسة أشهر، بدلاً من جولات المفاوضات قصيرة الأمد.. وكان الهدف من ذلك إيجاد قناعة لدى المتفاوضين بأنه ليس هنالك خيار آخر سوى النجاح، كما أصبح جلياً أن المراقبين من جانب الترويكا سيكون لهم دورهم في عملية التفاوض.. من الجانب الأمريكي، تم حشد جاك دانفورث وولتر كانستاير وريتشارد أرميتاج وكولن باول لحث الطرفين على التوصل إلى اتفاق والتأكيد على مسألة مكافحة الإرهاب، كما استثمر ألان قولتي علاقاته الطيبة مع حكومة السودان بالاتصال المستمر مع غازي صلاح الدين بينما توليتُ أنا جانب الاتصالات بالحركة الشعبية لتحرير السودان. بالنظر إلى المبادرة المصرية الليبية، ونسبة لأهمية علاقات مصر بالسودان، فإن الكينيين بدأوا يبحثون عن وسيلة لإشراك مصر في المفاوضات، وعليه فإنهم اقترحوا أن تدخل مصر بصفة مراقب في المفاوضات، إلا أن المصريين رفضوا ذلك العرض، فقد كان المصريون يريدون دوراً أكثر أهمية، وقد أرسلت بعد ذلك عدة دعوات إلى مصر، بما في ذلك الإشارات المبهمة بدور أكبر، لكن بلا طائل، وكانت تلك الدعوات مصدر قلق للحركة الشعبية التي كانت تعلم تماماً موقف مصر من مسألة تقرير المصير لجنوب السودان. وفي تلك الأجواء انعقدت الجولة الأولى من المفاوضات. بدأت الجولة الأولى في «مشاكوس» في 17 يونيو 2002م وكان رئيس الوفد الحكومي هو الدكتور غازي صلاح الدين العتباني، مستشار رئيس الجمهورية لشؤون السلام.. وقد ضم الفريق المفاوض كلاً من إدريس محمد عبد القادر، ويحيى حسين وزير الدولة برئاسة الجمهورية، ومطرف صديق وكيل وزارة الخارجية، وسيد الخطيب وهو من المفكرين الإستراتيجيين بحزب المؤتمر الوطني وآخرين، أما من جانب الحركة الشعبية فقد كان رئيس الفريق المفاوض هو سلفا كير ميارديت، نائب جون قرنق في رئاسة الحركة، وقد ضم الوفد نيال دينق، كمفاوض رئيسي، ودينق ألور، ود. جستن ياك، وسامون كواجي وآخرين. وقد انضم باقان أموم وياسر عرمان لاحقاً إلى الفريق المفاوض. المفاوضون الرئيسيون كان الدكتور غازي صلاح الدين أحد أعضاء النخبة الإسلامية في الخرطوم، وكان مستشاراً لرئيس الجمهورية لشؤون السلام، كما كان عضواً بارزاً في قيادة حزب المؤتمر الوطني، وهو سياسي متمرس، وتنتمي أسرته من ناحية أبيه إلى أصول مصرية ومن ناحية أمه إلى أصول مغربية وهو طبيب نال درجة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية من بريطانيا، وهو مثقف ذو مقدرة تحليلية عالية، ويمكن أن يحسب المرء دون تردّد أنه يمكنه أن يتوصل إلى حلول توفيقية وإلى صفقات مرضية، وهو عادة ما يستعيض عن «الجلابية» ببدلة وربطة عنق أنيقتين، ويستقبل الزوّار من الشخصيات العالمية بدون كثير عناء معبِّراً عن سياسات الحكومة بلغة «فرنسية» أو إنجليزية رصينة، وهو السياسي السوداني الوحيد الذي أعرفه يتواصل، منذ البداية، عن طريق البريد الإلكتروني وبصورة فورية، باختصار فإن الكثيرين كانوا يظنون أنهم يمكنهم التعامل معه بسهولة ويُسر. إلا أنه اتضح فيما بعد أن العديد من السياسيين والمسؤولين الغربيين الكبار قد أخطأوا في فهم الدكتور غازي، وهم قد فعلوا ذلك في الماضي وما زالوا يخطئون. فإنه من الممكن أن يظن الواحد له أنه «براغماتي» إلا أنه إسلامي حتى النخاع، وهو شديد الولاء للقيم والمبادئ التي قامت عليها الجبهة الإسلامية القومية السابقة، أو حزب المؤتمر الوطني الحالي، وهو بالرغم من عدم تمتعه بأي سند قبلي تقليدي في شمال السودان نجح في الحفاظ على موقعه في قيادة حزب المؤتمر الوطني وهذا إنجاز لا يُستهان به. وهو قد تنافس عدة مرات على الموقع القيادي في حزب المؤتمر الوطني مع علي عثمان محمد طه، ودكتور غازي يجيد تماماً اللعبة السياسية ولا تجب الاستهانة به، وهو لا يتقبّل بسهولة التنازلات التي تهدّد الوضع الراهن، وكرئيس للفريق المفاوض كان من النادر أن يكون حاضراً خلال المفاوضات ولم يشارك شخصياً في عملية التفاوض. كان يفضّل أن يقيم في مكان غير بعيد للمتابعة والتدخل عندما يتطلب الأمر منه ذلك. سلفا كير ميارديت كان مع جون قرنق في الغابة منذ البدايات الأولى في عام 1983م وهو الوحيد الذي كان لا يزال موجوداً من المجموعة الأولى التي قامت بالتمرد، وهو أولاً وقبل كل شيء عسكري ينتمي إلى القوات المسلحة، وذو خبرة طويلة في الإستراتيجية العسكرية والاستخبارات، وهو شخص هادئ شديد الاحترام لزوّاره، وعليه هالة من الوقار والنزاهة والذكاء، وهو يجبرك على احترامه أكثر من أن تخافه، وكانت تعوز سلفا كير المؤهلات الأكاديمية التي كان يتميّز بها، «رئيس الحركة» جون قرنق، الذي كان هو شديد الوفاء له، إلا أنه كان أكثر ما يكون ميالاً إلى الجوانب العملية، ولهذا السبب فإن سلفا كير لم يكن يهتم كثيراً بالعملية التفاوضية والدبلوماسية الدولية، وكان يفضل أن يبقى «وراء الكواليس» لإدارة الشؤون العسكرية هذا وقد تولى قيادة عملية التفاوض في «مشاكوس» بين حين وآخر، دون أن يكون موجوداً بصفة يومية، وبما أن الدكتوز غازي صلاح الدين كان يتابع المفاوضات عن بعد هو الآخر، فإنهما لم يلتقيا وجهاً لوجه خلال تلك الفترة، وكانت عملية «رفع الأثقال» من جانب الحركة الشعبية قد تُركت لينال دينق نيال، ودينق ألور، اللذين تناوبا لاحقاً مع باقان أموم في عملية قيادة المفاوضات. وكان المراقبون من قبل الترويكا هم «جين ملينغتون» القائم بالأعمال بسفارة الولاياتالمتحدةبالخرطوم، «وراشيل سيسك» من قبل المملكة المتحدة، ومن قبل النرويج خبير الشؤون السودانية «هالفور آسكييم» وفي الجولات اللاحقة أصبح «ألان قولتي» المبعوث الخاص للملكة المتحدة، ومن جانب الولاياتالمتحدةالأمريكية والمبعوث الخاص أو سفيرها، «مايكل راينبيرغر»، والسفير والمبعوث الخاص «فيغارد اليفسن» عن النرويج لاعبين أساسيين في عملية التفاوض. ومن جانبنا، لعب «كيل هودينبو» دوراً مهماً كذلك.. وكان التركيز في تلك المرحلة من الجولة الأولى من المفاوضات على تطوير مقترحات عملية للترتيبات الدستورية لما يمكن تسميته نموذج «لبلد واحد بنظامين» وكان البعض يرى أن الفيدرالية «غير المتكافئة» التي تضمن للجنوب حكماً ذاتياً واسعاً، وفي نفس الوقت تمثيلاً منصفاً في المركز، واحدة من أنماط الحلول الممكنة. وكان الجنرال «سيمبيو» يتعاون تعاوناً لصيقاً مع «الترويكا» وكان يقوم بالتشاور مع المراقبين مرة واحدة على الأقل في كل جولة كما كان يعقد اجتماعاً يومياً واحداً معهم لمناقشة الإستراتيجية، وكان مع فريق «سيمبيو» في ذلك الوقت «نيكولاس» ««فينك هيسوم» من جنوب إفريقيا، وهو محامي مختص بالشؤون الدستورية ذو خبرة طويلة في عملية التفاوض والذي كان موجوداً طوال فترة المفاوضات ولعب دوراً فيها. وقد التحق به لاحقاً «جولين هوتينغر» من وزارة الخارجية السويسرية. وكانت سكرتارية «الإيقاد» قد استعانت بخبراء فنيين آخرين في مجالات التفاوض المختلفة، كما انضم إلى الفريق عدد من الخبراء والمفاوضين وفقاً للموضوع قيد التفاوض، وقد كان بين المراقبين من حين لآخر السفير محمد سحنون، ممثلاً لمنظمة الأممالمتحدة. ورغماً عن المستوى الرفيع لفريق التفاوض من الجانبين فإن المفاوضات بدأت متعثرة، ففي خلال الأسابيع الثلاثة الأولى كان هناك الكثير من عدم وضوح الرؤية والغموض والتوجس بين المشاركين، وكان الجنرال «سيمبيو» قد صاغ ورقة قبل اجتماع قمة «الإيقاد» حول «بلد واحد بنظامين» والتي كان قد تشاور حولها مع الطرفين المتفاوضين، وكان كلاهما قد رفضها بدون تردد، وقد أخبر جون قرنق، الذي اعترض على الفكرة؛ لأنها لم تتطرق إلى قضية تقرير المصير، «سيمبيو» أن الجنوب لن يكون «ضمادة» على جانب السودان، ورغماً عن أن الورقة كان قد حكم عليها بالموت، فإن الحركة الشعبية ظلت تشير إليها كمسألة بالغة الخطورة، وعليه فإنه رغماً عن سنين المفاوضات الطويلة فإن الطرفين بدآ من نقطة الصفر. وبدلاً من أن يدخلا في عملية التفاوض بالجدية المطلوبة، ظلا يعيدان التعبير عن مواقفهما التقليدية المعروفة، وقد تعمد فريق «الإيقاد» أن يترك للطرفين المجال للتنفيس عن مشاعر الإحباط التي كانت تكتنفهما، ثم حاول بعد ذلك بلا جدوى، توجيه النقاش نحو مسألة «بلد واحد بنظامين» وقد أخبرني دينق ألور لاحقاً، بالكثير من الدبلوماسية «أن المحادثات لم تكن مثمرة، إلا أننا تعلمنا منها الكثير، وقد تمكن الطرفان على أقل تقدير من أن يعبِّرا عن موقفهما بوضوح».. إلا أن مطرف صديق، الذي كان عضواً في وفد الحكومة، قد عبّر عن الأمر بصورة أكثر صراحة، «لقد كانت المحادثات تدور في دائرة مفرغة». في بادئ الأمر، ومنذ ذلك الوقت المبكر، تمسكت الحكومة بقضية النظام الفيدرالي، إلا أن ممثلي الحركة الشعبية لم يكونوا راضين عن تلك الفكرة، وكان وفد الحكومة شديد الحذر إذا أنهم، ظلوا، بدون أن يضعوا مقترحات محددة على الطاولة، يثيرون بعض النقاط ذات الطبيعة العامة عن خيارات افتراضية لأنظمة فيدرالية محتملة، ومنذ وقتٍ مبكر، طلب الدكتور غازي اللجوء إلى مركز للدراسات لتقديم خيارات حول هذا الموضوع، وبالنسبة للحركة الشعبية فإن فكرة «بلد واحد بنظامين» كانت تعني النظام الكونفدرالي، الذي يفضل أن يكون علمانياً مع تداول الرئاسة بين الشمال والجنوب، أما بالنسبة للحكومة فإن «بلد واحد بنظامين» كانت تعني النظام الفدرالي، واعترضوا على فكرة الكونفدرالية؛ لأنها كانت تعني في نظرهم بلداً من كيانين متساويين.. كما أن النظام الفدرالي الذي يريدونه يجب أن يأخذ بعين الاعتبار مفهوم الدولة الإسلامية. نواصلهيلدا فرافجورد جونسون ترجمة: فريق ميتافرسي