انتخابات مصر الرئاسية حملت مفاجآت عديدة ومثيرة للغاية ، المفاجأة الابرز تمثلت في صعود حمدين صباحي رئيس حزب الكرامة ومنافسته الشرسة على الموقع الثاني بعد أن ظل في جداول الرصد قبيل عملية الاقتراع في مرتبة متأخرة ، ومفاجأة ثانية لاتقل رمزية وأهمية تجلت في خروج عمرو موسى وزير الخارجية الاسبق من دائرة المنافسة بصورة قاطعة ومنذ لحظة مبكرة من عملية فرز الاصوات. موسى الذي ظل متقدما في كل أسابيع الحملات الدعائية فشل في المنافسة وتراوح مكانه بين الرابع والخامس، بينما بصم محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين ، على قدرة الجماعة في الحشد واستمرار تصدرها للمشهد السياسي والانتخابي في مصر عن جدارة ، بعد تقارير أشارت إلى تراجع شعبيتها في الشارع المصري قبل ان يغرد مرسي وحيداً بالمركز الأول ليضمن الاعادة مع أحمد شفيق الذي حقق هو الآخر مفاجأة أخرى بمنافسته على الموقع الثاني بجانب حمدين. واستمراراً لانتخابات المفاجآت – بحق - تراجعت فرص عبدالمنعم ابوالفتوح القيادي المنلسخ عن جسد الجماعة الاقوى في مصر من المنافسة وظل متراوحا بين الثالث والرابع. نسب التصويت كشفت عن مزاجية واضحة لدى الناخب المصري الذي فاجأ الجميع برفع مرشح وإسقاط آخر بغض النظر عن تكهنات الخبراء والمختصين ، ليظهر بأن استطلاعات الرأي كانت – مضروبة - وأبعد ما تكون عن مزاج وتوجهات المواطن المصري ، لكن اللافت في الامر سعي بعض الناخبين لإعادة انتاج نظام مبارك الذي ثار عليه الشعب قبل أكثر من عام بالتصويت الكثيف الذي حصل عليه أحمد شفيق آخر رئيس للوزراء في عهد مبارك ، الامر الذي يطرح جملة من التساؤلات أبرزها مدى تحقيق الثورة لمطالبها ومدى قدرة الثوار في إقناع القطاع الاكبر من المصريين بضرورة المضي قدما في عملية التغيير ، بالاضافة إلى مدى انعكاس الاوضاع الداخلية وتراجع وضع مصر الاقتصادي وانفلات شارعها العام ودخوله في فوضى أثرت على الناخب وجعلته يدلي بصوته مختارا وراضيا لأحمد شفيق ليصبح منافسا قويا ومحتملا لرئاسة البلاد. بالنظر إلى الانتخابات البرلمانية الاخيرة فإن التحول الابرز في المشهد المصري بعد أقل من خمسة أشهر هو بقاء قوة الاخوان وعدم تأثرها بالحملات الاعلامية الامر الذي ضمن لمرشحها الاحتياطي محمد مرسي مكانا عليا في جولة الإعادة وبالتالي إمكانية ان تتولى الجماعة حكم مصر للسنوات الاربع القادمة ، هذا بالاضافة إلى بروز نجم «الفلول» بصورة تختلف عن انتخابات البرلمان التي شهدت انهيارا مريعا لأنصار النظام السابق. مرحلة الاعادة ستكون بين محمد مرسي الحاصل على المركز الاول بفارق بسيط عن الفريق احمد شفيق الذي وجه بملاحقة عنيفة من حمدين صباحي يليه عبد المنعم ابوالفتوح ، في تطبيق للسيناريو الثاني الذي سبق وأن أشرنا اليه في أيام سابقة وهو إعادة بين ( مرسي – شفيق ) ، بعد سقوط مفجع للسيناريو الاول المتمثل في إعادة ( أبوالفتوح – موسى ) ، الامر الذي يؤشر إلى ان المناظرة التلفزيونية بين الرجلين أثرت سلبا على فرصهم ، وأتاحت المجال لأصحاب السيناريو الثاني من حشد الاصوات التي تساقطت فور انتهاء المناظرة ، لتبقى أفضلية الظفر بمنصب رئيس الجمهورية متساوية بدرجة متقاربة. بالرغم من صعوبة التنبؤ بنتائج الجولة الثانيه الا ان مرسي سيحظى بكتلة تصويتية لابأس بها من اصوات المرشح الاسلامي الاخر عبدالمنعم ابوالفتوح ، كما سينال جزءا مقدرا من أصوات الثوار الذي أدلوا بصوتهم لحمدين صباحي. بينما سيضيف أحمد شفيق لأصواته انصار عمرو موسى بالاضافة إلى الاقباط الذين ذهبت أصواتهم في الجولة الاولى إلى حمدين صباحي ، مع الوضع في الاعتبار انحسار نسبة التصويت وتراجعها في جولة الاعادة في ظل إحجام متوقع لأعداد كبيرة تتراوح بين 10 إلى 15% من المحبطين لوصول الاخوان والفلول معا ، مما يضع مرسي أولا نسبة لضمان اقبال الجماعة وانصارها لاسيما التيار السلفي الذي تحرك في الجولة الاولى باتجاه ابوالفتوح وسيندفع – مجبراً أخاك لا بطل – صوب مرسي خوفا من نجاح شفيق وعودة صورة تقريبه للنظام السابق. الحقيقة أن صناديق الاقتراع التي أظهرت جزءاً من تصور المصريين للمستقبل لم تفصح بعد عن كل أسرارها ، مما يجعل جولة الاعادة اكثر تشويقا واثارة ، فوصول مرسي وشفيق في حال صدقت النتائج النهائية على التسريبات الاولية يعني مزيداً من الانقسام بين تيارين سيطرا على المشهد في مصر خلال العام الاخير. أنصار الاسلام السياسي الذين حققوا انتصارات متتالية ابتداءً من الثورة مرورا بانتخابات مجلس الشعب والشورى انتهاء بانتخابات الرئاسة مدعومين بقطاع محدود من الثوار أفرادا كانوا أو جماعات. والفريق الثاني هم مؤيدو الدولة أو التيار الداعم للتغيير بشروط ومحاذير من بينها الحفاظ على صورة مصر ، ومن بين هؤلاء تظهر صورة انصار مبارك والحزب الوطني المنحل بالاضافة إلى الطبقة البيروقراطية وغير المسيسين ، مما يجعل المنافسة صعبة وغير قابلة لتكهنات مطلقة. جدير بالذكر الاشارة إلى موقف جماعة الاخوان المسلمين القلق من امكانية تزوير الانتخابات لصالح المرشح احمد شفيق ، فهذا السيناريو وإن كان بعيد في الجولة الاولى ، فإن إمكانية حدوثه في جولة الاعادة يبقى أمرا ممكنا ، باعتبار ان فرص تمرير فوز شفيق في جولة الاعادة تبقى وجيهة بعد حصوله على أصوات الملايين في الجولة الاولى وسحقه لموسى وصباحي وابوالفتوح ، وبالتالي قبول قطاعات واسعة لاختيار الناخب ، يضاف إلى ذلك زهد الحركات الثورية في مناصرة الاخوان في ظل عداء متجذر ويتجدد كل يوم نسبة لرغبة الاخوان في الانفراد بالسلطه حسب رأي اولئك ، مما يمهد الطريق للعب في عملية التصويت أو الفرز ، هذا الموقف المتشائم يواجه برأي آخر يشيد بموقف المؤسسة العسكرية ويرفض فرضية التزوير في ظل الوجود الكثيف لمنظمات المجتمع المدني المصرية والاجنبية ، وتواجد وكلاء للمرشحين ومندوبين عنهم في كل اللجان طيلة العملية الانتخابية من التصويت إلى الاعلان. أكثر ما يخيف البعض من فرضية وصول احمد شفيق لرئاسة مصر القلق من عملية انتقام ممنهج ضد الثوار والشخصيات العامة التي شنت هجوما على شفيق يوما ما ، مع استبعاد كبير لفرص انتاج النظام السابق أو إجهاض الثورة باعتبار ان مصر بدأت في عملية التغيير ولن تدور عجلة الديمقراطية إلى الوراء حتى وان وصل شفيق للرئاسة ، وإن كان وصوله كفيلا بإنتاج أزمات عديدة وضياع نهائي لفرص جمع القوى الوطنية حول شخص الرئيس ، وهو الامر الذي تحتاج اليه مصر بشدة في المرحلة القادمة ، وقد تظل الفترة الرئاسة مرتهنة لمناكفات تؤدي حتما إلى ضياع القضية الحيوية وتواريها خلف الصراعات السياسية ، دون ان يعني ذلك إمكانية قيام ثورة جديدة ، بحسبان ان ما تحقق من حريات عامة وتعددية حزبية وأجواء ديمقراطية لايمكن إلغاؤها بمجيء شفيق أو غيره وستبقى حقا مكتسبا لا يمكن العبث بها ، مع بقاء الخوف من إعادة انتاج الفكر الجديد بنظرية التوريث المؤسسي هذه المرة باستغلال إمكانيات الدولة وإمكناتها للترويج لشخص من داخلها لتستمر النخبة الحاكمة ديمقراطيا في حكم مستعينين بالمؤسسات الراسخه وعلى رأسها الجيش. بغض النظر عن كل ما سبق فإن ما يجري في مصر الآن.. أمر مربك بحق ومثير للاهتمام والدراسة والبحث السياسي والنفسي معا ، كيف لا ونحن بصدد شعب أنجز ثورة أنهت حكم الفرعون في مصر وقذفت به وراء قفص الاتهام .. ثم ذات الشعب ذاك يتجه بعد عام وزيادة،، لانتخاب رئيس وزراء ذلك الرئيس المسجون رئيسا بديلا ...عن أي نموذج للثورات إذن .. نحن نتحدث ؟؟.