لا خلاف على أن خطاب رئيس الجمهورية عمر البشير أمام البرلمان أمس يكاد يكون أهم خطابته خلال هذا العام على الإطلاق، إن لم يكن أهمها لسنوات عديدة مضت.. وتأتي أهميته من عدة أسباب مجتمعه أولها التغيير الكبير الذي أحدثه في هيكلة الدولة بجانب الجراحات الاقتصادية العميقة والحادة .. في جلسة البرلمان كل شيء يؤكد أن ما سيقوله الرئيس جدي ومؤثر على مستقبل السودان.. الحضور كان لافتاً من نواب ووزراء ومستشارين ومساعدي الرئيس .. أجهزة الإعلام حضرت منذ التاسعة صباحا .. في أول الأمر أعلن أن الرئيس سيلقي كلمته في العاشرة وعند وصول الصحفيين لمقر البرلمان وجدوا أنه تأجل للواحدة ظهرا لماذا الرئيس؟ الارتياح كان واضحة على وزير المالية علي محمود وهو يستمع إلى خطاب رئيس الجمهورية، لأن وزير المالية المستفيد الأول من وجود الرئيس في البرلمان.. وعلى الأقل سيسهل مهمته أمام البرلمان يوم الأربعاء القادم عندما يأتي ليفصل الإجراءات الاقتصادية التي وردت في الخطاب .. خبير اقتصادي أشار إلى ما جاء في الخطاب كان من الممكن أن يدلي به وزير المالية ولكن للظرف الذي تمر فيه البلاد فضلت القيادة السياسية أن يمهد له الرئيس الطريق ليس للنواب وحدهم ولكن حتى لرجل الشارع، وقال عز الدين إبراهيم "الرئيس سهل مهمة علي محمود كثيرا وخاصة في ما يتعلق برفع الدعم وزيادة السقف الضريبي". مجاز مجاز التعبئة التي سبقت الخطاب كان لها أثر كبير على موقف النواب من خطاب الرئيس.. القاعة كانت تضج بالتكبير مع كل فقرة من فقرات الخطاب .. وبالذات عندما تتعلق بتخفيض مخصصات الدستورين وامتيازاتهم أو لو تعلقت بخفض الإنفاق الحكومي .. وحينما أعلن الرئيس أنهم قرروا خفض 100 دستوري على مستوى المركز و260 على مستوى الولايات قال الرئيس " سيكون هذا التخفيض نافذ بعد أن يجاز هذا الأمر من مجلسكم الموقر وهنا هتف النواب" مجاز مجاز مجاز" .. الرئيس وجد نفسه مجبرا على تهدئة هذا الحماس الزائد فقال " أجيزوه بعد أن يقدم لكم وزير المالية بيانا تفصيليا يوم الأربعاء" وهنا تذكرنا في منصة الصحفيين مقولة شهيرة " الشيطان يكمن في التفاصيل" .. ولكن هل سيمنع شيطان التفاصيل إجازة حزمة الإجراءات الاقتصادية ؟ الإجابة لا. وكما أسلفنا الرئيس سهل مهمة علي محمود إن لم يكن أنجزها وعلى ذلك أشار الخبراء إلى نقطة مهمة وهي أن هذه الإجراءات التي أعلنت في خطاب الرئيس سبق وأن وافق عليها نواب البرلمان بالإجماع عندما قدمت في الخطة الإسعافية في البرلنامج الثلاثي. خطاب للشعب كان واضحا أن خطاب الرئيس موجه في الدرجة الأولى للشارع وللشعب لنواب البرلمان كما هو متوقع.. لذا كانت البداية بالحكومة نفسها.. خفض الدستوريين ومخصصاتهم . وخفض المجالس التشريعية في الولايات .. تجريد الدستوريين من العربات الحكومية والإبقاء على واحدة .. إيقاف الدراجات البخارية "المواتر" التي تسبق عربات الوزراء .. ثم تلى ذلك الحديث عن خفض الإنفاق الحكومي بشكل عام واستعادة المال العام وتطبيق لوائح الدولة بطريقة صارمة وحرمان المتنفذين من الامتيازات الخاصة التي هي بمثابة استفذاذ للمواطنين ..كان لا بد للرئيس أن يعلن عن معالجة الإيرادات ففعل وذكر أنها تتعلق بزيادة ضريبة القيمة المضافة وزيادة أرباح الدخل على البنوك ورفع ضريبة الواردات وأهم ما ورد في هذا الجانب وهلل له النواب محاربة ظاهرة تجنيب الأموال من وزارات ومؤسسات الدولة المحروقات تمهيد خاص لحساسية موضوع رفع الدعم عن المحروقات والذي بات مؤخراً اهتماما شعبيا، أفرد له الرئيس فقرة خاصة سبقها بتقديم يجعل الأمر مقبولاً .. وكانت المقدمة كالآتي" وتعلمون أيها الإخوة والأخوات أن جزءاً مقدراً من الموازنة مخصص لدعم المحروقات والتي كانت تدعم من عائدات صادرالبترول من نصيب الحكومة السودانية. ولما ذهب ذلك العائد أصبح دعمها دعماً بالعجز أي على حساب المواطن الفقير من دافعي الضرائب لصالح ذوي الدخول العالية لأن الدعم يأتي على حساب قيمة كل قرش في يد الفقير أو الغني على حد سواء. إن أكبر عيوب الدعم غير المباشر يتمثل في أن الأقدر على التحمل هو المستفيد الأكبر ، فأصبحنا كمن يأخذ من جيوب الفقراء ليدعم الأغنياء" وعند النقطة أعلن الرئيس رسميا رفع الدعم عن المحروقات، وفي انتظار أن يفصلها علي محمود يوم الأربعاء اللبن والسكر حينما قلنا إن الخطاب كان للشعب استنتاجا من توزيع فقراته وبنوده فبعد أن ورد الحديث عن زيادة المحروقات ..دلف الرئيس إلى تهدئة مخاوف الناس وأشار بوضوح أن لا زيادة في أسعر السفريات الداخلية ولا مواصلات العاصمة فوق الزيادة التي حدثت مؤخرا أي أن رفع الدعم عن المحروقات لن يزيد الأسعار أكثر من ما هي عليه.. ودخل الخطاب إلى مرحلة أعمق في التطمين عندما ذكر أن الدواء سيعفى من الجمارك تماما وخفض الرسوم الجمركية على السكر ولبن البدرة، بجانب مساعدة الشرائح الضعيفة وتوسيع مظلة الضمان الاجتماعي التي تشمل 500 ألف أسرة لتشمل 750 ألف أسرة .. وتناول الخطاب بشريات تتعلق بدعم الموسم الزراعي ودعم الصناعة والآليات الزراعية. ميزانية بديلة الخبراء الاقتصاديون يعرفون ما حدث أمس في البرلمان وما جاء في خطاب الرئيس بأنه ميزانية بديلة للميزانية التي قدمها وزير المالية في مطلع العام الحالي، تبديل الميزانية اقتضته ظروف الحرب التي اشتعلت في أطراف السودان، والأهم من ذلك إيقاف الجنوب لأنبوب النفط، حيث إن رسوم عبور النفط كانت بندا مهما في الميزانية. خبير الاقتصاد كان رأيه أن وضع الرسوم في الميزانية وتوقع عائداتها أمر لا تلام عليه وزارة المالية لجهة أن عائدات النفط تمثل 98% لخزينة دولة الجنوب ولا يمكن أن يتوقع أحد أن تستغني من هذه العائدات إلا إن أصابها الجنون ولكنها فعلت وأصابها الجنون على حد تعبيره. العبرة بالتنفيذ النواب أجمعوا على أنها إجراءات شجاعة وأمنوا على أنها من الممكن أن تعالج كثيرا من الإشكاليات ..البعض يرى أن خفض الإنفاق وتقليص الدستوريين قد يحسن كثيرا من صورة الحكومة لدى المواطن قبل أن يكون له أثر على خزينة الدولة.. ولكن رئيس اللجنة الاقتصادية بالبرلمان الزبير أحمد حسن قال "العبرة في التنفيذ" وأشار على أن الدولة يجب أن تعمل على تنفيذه بحزم وخاصة أنها أعلنت إجراءات مشابهة أكثر من مرة ولكن لم يكن لها أثر.. نائب رئيس اللجنة الاقتصادية بالبرلمان قال "الخطاب يشفي ولا يكفي" أي أنه يحتاج للمزيد وانتقد صراحة السياسات النقدية الجدية التي من شأنها أن تزيد سعر الصرف حسبما ألمح. ماذا يريد المواطن بعد أن فرغ الرئيس من الخطاب وخرجنا إلى الشارع استطلعنا آراء المواطنين.. انحصر رأيهم في أمر واحد عبارة عن السؤال "هل ستخفض الإجراءات التي أعلنها الرئيس الأسعار وتقلل من الضائقة المعيشية؟" سؤال آخر تردد خلل الاستطلاع: متى سيكون لهذه الإجراءات أثر على حياة الناس؟ طرحنا السؤال على عزالدين إبراهيم وكانت إجابته غير متفائلة وقال " لا أعتقد أن هذه الإجراءات وحدها ستخفض الأسعار وتقلل الضائقة المعيشية وفي أحسن الأحوال ستبقي عليها وأخشى أن تزيد". الفاتح عزالدين رئيس لجنة الحسبة والمظالم بالبرلمان أوضح أن آثار هذه الإجراءات ستظهر خلال عام بينما يرى خبراء أنها ستكون نافذة من بعد بيان وزير المالية بالبرلمان الأربعاء المقبل.