مقدمة: هو أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني البصري، ولد في البصرة في شهر ديسمبر أو يناير 768 للميلاد. وكان من المعتزلة، ويقال إن جده لأبيه زنجي من شمال افريقيا كالموسيقى الأشهر زرياب، والذي يعتقد أن أصوله تعود إلى تنزانيا. نشأ الجاحظ في أسرة فقيرة، ولكنه كان مولعاً بالعلم وتثقيف نفسه، فكان يؤم المساجد ومعه ثلة من رصفائه يناقشون شتى ضروب المعرفة. وكان يستمع بشقف للمحاضرات التي كان يلقيها كبار العلماء في مساجد البصرة. وقد كتب أول رسائله عن الخلافة في الدولة الإسلامية وهو مازال بالبصرة. ثم انتقل الجاحظ إلى بغداد عام 816م وعلى مدى ربع قرن من الزمان اكتسب علماً غزيراً. وأصبح موسوعي الثقافة، فقد اطلع على الفلسفة الإسلامية والأغريقية، وخاصة فلسفة ارسطو طاليس. وقد مكنّه ذلك من تأليف مائتي كثاب لم يصلنا منها سوى ثلاثين مؤلفاً. ومن أشهر كتبه التي أحببتها وداومت على قراءتها: كتاب البيان والتبيين والحيوان والبخلاء، والذي نشرت عنه مقالاً بعنوان «صور سودانية في كتابات الجاحظ»، ثم هنالك كتاب مفاكرات «السودان والبيضان» الذي تجلت فيه عبقرية الجاحظ، فقد وضح فيه أن الزنج ليسوا مسخاً كما زعم البعض، فقد كتب يقول: الكل يجمع على أن ليس هناك أكرم من الزنج، وهؤلاء القوم لهم مقدرة طبيعية على الإبداع في الرقص، وليسوا في حاجة لتعلمه، كما أنهم يتميزون بالفصاحة، وقوة البدن، ثم يذكر أن الله لم يجعلهم سود البشرة ليشوههم بل يعود سوادهم إلى البيئة التي يعيشون فيها، وضرب مثالاً لذلك القبائل السود من العرب كقبيلة بني سليم بن منصور وكل سكان منطقة الحرة. ويذكر أن حتى الحيوانات مثل الغزلان والنعام والحشرات والذئاب والأغنام والخيل والطيور في تلك المنطقة يغلب عليها اللون الأسود، ثم وضح أن انتشار اللون الأسود بين كل هذه المخلوقات، بما فيها الإنسان، يعود إلى البيئة وخاصة تأثير ضؤ الشمس وحرارة الطقس. ربما يعود اهتمام الجاحظ بألوان البشر إلى أصوله الزنجية. ومن الأمور التي كتب عنها في هذا المجال تغير البشرة السوداء إلى بيضاء بسبب علة البرص وخاصة بين الانسان والخيل، وذلك في كتابه «البرصان والعرجان والعميان والحولان». ماهو البرص: البرص هو عبارة عن فقدان الصبغة الملونة للجلد والمسماة بالملانين، وذلك في أماكن متفرقة من الجسم. والسبب الأكثر احتمالاً أن هذه الخلايا الملانية يتم تدميرها بما يسمى بالمناعة الذاتية Auto-immunity حين يقوم جهاز المناعة بتدمير خلايا الجسم بدلاً من القضاء على مسببات الأمراض من بكتريا وفيروسات وطفيليات. وهنالك عدة دراسات توضح كيف يحدث ذلك، ويقوم أحد طلاب الدراسات العليا بمعهد الأمراض المتوطنة بدراسة ظاهرة البرص بين السودانيين مستخدماً في ذلك أساليب علمية متطورة. ماذا قال الجاحظ عن أسباب البرص؟ بالطبع لم يكن علم المناعة معروفاً في عهد الجاحظ. وكانت تعزي أسباب المرض لاختلال الأخلاط الأربعة، وهذه الأخلاط هي السائل الصفراوي الأسود Black bile والسائل الصفراوي الأصفر والمادة البلغمية والدم. وكانوا يعتقدون بأن عدم التوازن بين هذه الأخلاط يؤدي لشتى أنواع الأمراض. فماذا قال الجاحظ عن أسباب البرص؟!. هذا ما كتبه «والبرص أصله من البلغم، وإذا رأيت الرجل القضيف اليابس أبرص الجلد، فاعلم أن المرة هي التي اعتصرت بدنه حتى قذفت بالبلغم ومجته في ظاهر جسده، فلما لم يقو ذلك المكان على ابعاده وهضمه تحير هناك فافسد ما هناك» أننا نعلم الآن أن ما يقذف به الجسم إلى الجلد هي خلايا مدمرة تنتج عن المناعة الذاتية، وهي خلايا تائية من نوع CD8، وهي التي تدمر الخلايا الملانية في عدم وجود خلايا حارسة تسمى Treg أو الخلايا المنظمة التي تمنع خلايا CD8 من تدمير الخلايا الملانية. ومن الطريف أننا كنا نطلق سابقاً على هذه الخلايا اللمفاوية الخلايا البلغمية، ثم يقول: «ويعتري (البرص) غرابيل الخيل وخصاها وجحافلها ويكون بالحيات والوزغ... وفي الحديث المرفوع أن الوزغة لما نفخت على نار إبراهيم سمت وبرصت، فمن ذلك قيل سام أبرص. ويعتري البرص مواضع المحاجم ويصيب أشياء من النبات كالبطيخ. والعرب تخاف أعداء الجرب والصفر والعدسة والجدري، وهم وإن استعظموا هذه الأشياء ولم يقدموا البرص عليها في الشدة فإن القرآن أصدق منهم، ولولا أن البرص العتيق أشد امتناعاً وأبعد برءاً لما ذكر الله البرص دون هذه الأدواء، وقد فخر كثيرون من العرب بالبرص، ومنهم المحجل واسمه معاوية بن حزن بن مؤلة بن معاوية بن الحارث. وقد رأس وسمى المحجل على الكناية من البياض والكناية أيضاً من البرص، وهو الذي يقول: يا مي لا تستنكري نحولي ووضحاً أوفى على خصيلي فان نعت الفرس الرحيل يكمل بالغرة والحجيل وأصل تسميتهم المحجل مأخوذ من الحجل والحجل هو الخلخال، فإذا كان في الفرس في موضع الخلخال بياض قيل محجل. واضح مما تقدم أن العرب كانت تعرف البرص، وتعرف أنه غير معد كالجرب مثلاً. آه لو علم الجاحظ أن البلغم الذي عناه هي الخلايا التائية أو البلغمية وصدق الأستاذ فوزي عطوى عندما قال في مقدمة كتاب الحيوان للجاحظ «كيفما قلبت الطرف، في أدب الجاحظ، فإنك واقع منه على العجب العجاب». } معهد الأمراض المتوطنة } رئيس الأكاديمية الوطنية السودانية للعلوم