كان ذلك نهار الثلاثاء الثامن والعشرين من رمضان، عندما تركتُ مقر الصحيفة عند الواحدة ظهراً ميمماً وجهي شطر السوق الإفرنجي بالخرطوم، وذلك لاقتناء بعض الأغراض، وقدراً نصل في وقت واحد، شخصي الضعيف والجنرال محمد الأمين خليفة عضو المجلس العسكري للثورة الإنقاذ، نصل إلى مكان بيع أحذية على قارعة شارع الجمهورية بفرندة بالسوق الإفرنجي، وبالتأكيد ليس هو محمد الأمين خليفة الذي كان يلتمع كتفاه بشارة الثورة الحمراء، ويكتسي وجهه بنضارة الشباب، وتتقد أعينه بأوار الثورة الوليدة يومئذ، فتحتاج إلى ذاكرة وفراسة باهرتين لتكتشف أنه هذا الرجل الذي لم يمنعه الحياء من أن يأخذ بعض أغراضه من قارعة الأسواق، وبدا أن سنن المعاش وداء السكري وأدواء المؤتمرات قد أخذت منه الكثير، كثير من المارة لم يعيروه التفاتة، ليس لأن هذا الشعب ناكر جميل، ولكن لأن معالم «الرجل الثورة» قد اندثرت بفعل السنين وأفعال الأزمات، فبعض الذين تعرفوا عليه بادروه بالتحية والإجلال والتقدير، أما أنا فقد تعرفت عليه من النظرة الأولى، فمن خصائص هذه المهنة وتخصصاتها أنها تكسبك بعض بداهة وفراسة ومتابعة لتقلبات الأزمان. أمسك رجل المؤتمر الشعبي «بنعل صقيل» فبادرته بالسؤال (يا سعادتك لقد أخذتم حظكم من بوت العسكرية فهلا اخترت نعلاً أكثر خفة)، ثم طفقنا سوياً نمارس عملية الشراء من (كومة أحذية) وضعت على طاولة عتيقة، فكل منا قد وجد ضالته، فقط تبقت مسألة (المقاسات)، فأجلسنا الرجل بائع الأحذية على منضدتين عتيقتين وأسندنا ظهرينا على الحائط وذهب هو إلى مكان ما ليأتي لنا (بمقاساتنا)، فغاب الرجل بعض الوقت ثم أتى يحمل مجموعة من الأحذية، فكان من حسن الصدف أن مقاسنا (طلع واحد)، ونحن نمسك بخياراتنا من هذه البضاعة قلت (يا سعادتك إنتو العسكريين دائماً تذهبون باتجاه البوت، وفي المقابل نحن جماهير دولة الأفندية ننتعل الشباشب)، عالج هذه المعادلة ببعض ابتسامة، ونحن على هذه الحالة إذا بسائق عربة يقف إلى جانبنا وهو يسرف في استخدام (البوري) لينبه صاحب سيارة أخرى لإخلاء المكان له، فقلت لجليسي سعادة العقيد (لماذا أصبح السودانيون لا يحتملون بعضهم)؟ وبالتأكيد أن هذا السؤال ينطوي على مجموعة إيحاءات، فقال لي (هذه أنانية)، ثم أردف: (إذا كان الكبار يمارسون هذه الأنانية فإنها لا محالة ستتنزل على عامة أفراد الشعب)، وفي هذا الأثناء يدخل علينا رجل من أهل شمبات، وسلم على سعادة العقيد (بالأحضان) فلمّا انصرف قال لي (كانت لنا جيرة حلوة بشمبات لمّا كنت أسكن في بيت الإيجار، ولكن منذ فترة رحلنا إلى حي كافوري وافتقدنا تلك الحميمية)، فذكرت له أن خالنا الفريق الفاتح عبد المطلب له بيت بكافوري من ضمن الأراضي التي خصصت للضباط، فقال لي «سعادة الفاتح كان سنيَر علينا وعرفت أنه قد تعرض إلى محنة طبية وسأزوره إن شاء الله»، ولعل في هذه الإجابات التي قال بها رجل ثورة الإنقاذ الكبير بعض القيم وكثير من الوفاء، فلك أن تتخيل عزيزي القارئ أن العضو التاريخي للثورة إلى وقت قريب يسكن في «بيت إيجار»، بل لعله لم يعد سراً أن الرجل كاد أن يدخل السجن منذ فترة لأنه عجز عن تسديد بعض الفواتير. هكذا ودعني الرجل بلطف وهو لم يعرف بعد «هويتي الصحفية» وقال لي إنه ذاهب ليشتري أغراضاً أخرى. وربما تختلف مع رجل المؤتمر الشعبي سعادة الفريق محمد الأمين خليفة، ولكنك لا تملك إلا أن تحترمه، وأن تحترم أكثر فيه هذه البساطة، وهذا التجرُّد وهذه السودانوية السمحة. سيدي، كل عام وأنت وهذا الشعب الكريم وهذه الأرض السمحة بخير وبتماسك وبوحدة وبتكافل.