على عكس ما هو معهود من إقامة المواطنين الجنوبيين بمدن الشمال والعمل والزواج والتواصل ذهبت عائلة (عكاشة) جنوباً، ولا يجد أفراد عائلة (عكاشة)، الذين يعدون بالعشرات، أنفسهم معنيين كثيرا بنتيجة استفتاء تقرير مصير الجنوب الذي سينظم بعد نحو ثلاثة أشهر؛ لأن هناك نتيجة اجتماعية حققها أسلاف العائلة منذ نحو قرن من الزمن، وتلك في نظرهم هي «الوحدة الحقيقية الجاذبة» للسودانيين شمالييهم وجنوبييهم. فهذه العائلة الشمالية امتزجت جيناتها بدماء وجينات جنوبية إلى درجة يستحيل معها أن تقول عن أحد أفرادها إنه شمالي أو جنوبي، بل منهم من يرفض هذا التصنيف ويكتفي بالقول إنه سوداني. في بيتهم العتيق، في حي سوق جوبا، حكى الطيب يوسف عكاشة عن تاريخ العائلة بدءاً من وصول جده عكاشة محمد أحمد عبد العزيز «كوراك» إلى جنوب السودان في بداية القرن الماضي، وقال الطيب عكاشة إن جده عمل بالتجارة وتنقل بين عدة مدن ومناطق في الجنوب قبل أن يستقر في جوبا ويتزوج من قبيلة الباريا، التي تقول بعض الروايات إن أصولها إثيوبية، ثم التحق به بعد ذلك إخوانه (أحمد) ثم (محمد) ثم (مصطفى) إثر توسعه في العمل التجاري. ويضيف الطيب: «عائلتنا نسجت علاقات وشيجة بين الشمال والجنوب ووحدت السودانيين بالعلاقات الاجتماعية المبنية على الثوابت الراسخة التي لا يستطيع أحد أن يزعزعها». ياسر، أحد أبناء عكاشة من زوجته الجنوبية، ويفوق عمره الستين، يقول: «لا دخل لي بالاستفتاء وأن النتيجة لا تهمني»، ويضيف باستخفاف: «سأذهب إلى الخرطوم متى شئت وأعود منها متى شئت، سواء انفصل الجنوب أو بقي مع الشمال في دولة واحدة، نحن شعب واحد». أما إبراهيم عكاشة محمد أحمد فيقول «هذه الوحدة التي يتبجح بها السياسيون نحن حققناها بلا ضجيج، باختصار نحن الوحدة، والشعب أصلاً لم يكن له أي ضلوع في هذه الأزمة؛ فقد رحب بنا إخواننا الجنوبيون ونتعامل مع بعضنا بغض النظر عن السياسة أو الجغرافيا، ولو حصل انفصال من الغد فلا مشكلة لدينا». وليست دماء عائلة عكاشة ولا جيناتها هي وحدها التي اختلطت بدماء وجينات الجنوبيين، بل إن أموالها بدورها اختلطت بأموال الجنوبيين، وصارت الاستثمارات والمشاريع الاقتصادية التي يديرها أبناؤها جزءاً لا يتجزأ من اقتصاد جنوب السودان، فأمين، أحد أبناء عكاشة، يعد من أكبر المستثمرين في الجنوب، ويدير مشاريع كثيرة في مختلف المجالات بدءاً من المشاريع السياحية والفنادق، مروراً بقطاع الطيران وقطاع البناء، ووصولاً إلى قطاعات أخرى متعددة استثمر فيها ملايين الدولارات. ويقول أمين عكاشة إن مدينة جوبا شهدت في أغسطس عام 2005م أحداثاً دامية، تم خلالها حرق العديد من المؤسسات والشركات والمحلات التجارية، إلا أن شركاته لم تتعرض لأي سوء، وأرجع ذلك إلى تجذر أسرته وسط الجنوب وكسبها ثقة أبنائه، وقال: «طائراتنا تنقل المرضى الجنوبيين مجاناً إلى الخرطوم، وتنقل مجاناً أيضا جثث من مات من الجنوبيين في الشمال لتعيدها إلى أهليهم في الجنوب، إضافة إلى أننا أصبحنا جزءاً لا يتجزأ من الجنوب». بعيداً عن صخب السياسة وتراشق أهلها، استطاعت أسرة عكاشة وأسر أخرى غيرها كثيرة أن تحقق التواصل بين شمال السودان وجنوبه، وأن تبني وحدة لا تزعزعها رياح التيارات السياسية؛ لأنها وحدة مصاهرة وكذلك وحدة «ملح وعيش».