كثيراً ما يتَّفق المتابعون للساحة السياسية حول أسباب الزيارات التي يقوم بها المصريان وزير الخارجيَّة أحمد أبو الغيط ومدير جهاز المخابرات الوزير عمر سليمان، اللذان عادةً ما يترافقان في زياراتهما إلى السودان، التي يتم أغلبها في أوقات الأزمات السياسية الحرجة، والحالة هذه كانت أيام قرار المحكمة الجنائية، وتردد آنذاك في المجالس انهما جاءا يحملان رسائل من الدول الكبرى في مقدمتها أمريكا لقبول القرار أو محاولة إقناع الرئيس عمر البشير بالتنازل عن السلطة والبقاء في دولة أخرى، وقد شهدت هذه الفترة زيارات عديدة لهذين الرجلين، كذلك زارا السودان عقب مباراة مصر والجزائر التي أقيمت باستاد المريخ بأم درمان لامتصاص إفرازات ما تمخّض من تصريحات كادت تؤثر على علاقات البلدين.. أيضاً أدت استضافة مصر في وقت سابق لرئيس حركة العدل والمساواة د. خليل ابراهيم إلى سوء تفاهم بين القيادات، بعثت على إثره مصر وزير خارجيتها ومدير جهاز المخابرات للتأكيد على حيادية الدور المصري.. كذلك من القضايا التي فيها القياديّان إلى السودان قضية مياه النيل، عقب انفراد دول المنبع بقرارات وجدت المعارضة من السودان ومصر.. بالمقابل كثيراً ما يختلف المراقبون حول أهداف وأغراض هذه الزيارات، يرى بعضهم أنها تأتي دائماً في سياق دعم وحدة السودان وحل قضاياه والتأكيد على قوة العلاقات الثنائية ذات الاهتمام المشترك، خاصة الاستفتاء ومسألة المياه والأمن في المنطقة، فيما يرى آخرون أن هذه الزيارات في الغالب تتم في إطار التكتيكات السياسية وممارسة مزيد من الضغوط على السودان طالما أنّه يعاني من مشكلات في دارفور والجنوب، وهؤلاء استشهدوا بأدوار مصر السياسيّة في قضية دارفور ومحاولاتها العديدة تحريك أجندة الحركات المسلحة من خلال الاستضافات التي تمّت لضمان تواصل العلاقة مع الحركات، أو محاولات أخرى عديدة قامت بها لإجهاض مفاوضات الدوحة - «حسب قولهم» - وسعيها الدؤوب لتوطيد علاقاتها مع الجنوب ربما على حساب الشمال، ووضح ذلك من خلال مبادرتها لإقامة قنصلية هناك وطرح مشروعات استثمارية عديدة، فهمها الناس في سياق الخطوات الاستباقيّة لقيام علاقات مع الجنوب حال الانفصال، رغم ما يحمله هذا الخيار لمصر من مشاكل، وحديثها المتكرر عن مساندتها لخيار الوحدة. هذه الآراء المتباينة طُرحت في الساحة من جديد حينما أعلنت مصادر دبلوماسية رسمية أن وفداً مصرياً رفيع المستوى يضم وزير الخارجية أحمد أبو الغيط ومدير جهاز المخابرات الوزير عمر سليمان، يزور السودان، وبحسب المصادر سيجتمع الوزيران في الخرطوم بالرئيس عمر البشير ومجموعة من النافذين، وعقب ذلك سيغادر الوفد إلى مدينة جوبا للقاء الفريق أول سلفاكير ميارديت، رئيس حكومة الجنوب، النائب الأول لرئيس الجمهورية، وتركّز مباحثات الوفد على استقرار السودان على ضوء اقتراب الاستفتاء وإزالة الخلافات بين شريكي الحكم.. لكن هل لهذا الغرض جاءت الزيارة؟ أم أن هناك أجندة أخرى غير معلنة تتعلق هذه المرة بممارسة ضغوط على حكومة الخرطوم للقبول بالقوات الأمميّة التي ينوي المجتمع الدولي نشرها في المناطق الحدودية وإقامة منطقة عازلة وضمان التزامها بقيام الاستفتاء في مواعيده، خاصة أن وزير الدفاع الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين - خلال زيارته للقاهرة - تحدث عن مسألة التأجيل.. أم في أي سياق يمكن فهم زيارة الوفد؟ طرحت هذا السؤال عبر الهاتف على د. عبد اللطيف البوني، الكاتب المعروف، فقال: هذه الزيارة يمكن أن تُفهم في اتجاهين متناقضين، الاتجاه الأول ربما أُريد منها تبليغ رسائل، سواء من أمريكا أو غيرها، لكن أعتقد هذه المرة أن الزيارة قُصد منها دعم مواقف الخرطوم السياسية المتعلقة بأبيي والحدود، وهذا الأمر تدعمه تصريحات وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين حينما قال في القاهرة: لن يكون هناك استفتاء قبل ترسيم الحدود، وأكد البوني أن مصر شعرت بخطورة الموقف الذي يتّجه نحو انقسام السودان، خاصة بعد الحوار الجنوبي الجنوبي، وقال: (أخشى أن تكون مصر قد استيقظت في الساعة الخامسة والعشرين، وأسْتبعد أن يكون الهدف من الزيارة ممارسة المزيد من المكايدات السياسية أو اللعب على الحبلين، لأن الخرطوم الآن في أضعف حالاتها، وهذا الأثر ممتد إلى مصر). وفي السياق يرى د. عمر عبد العزيز، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جوبا، الذي تحدث ل «الأهرام اليوم» عبر الهاتف، أن المصريين حريصون على وحدة السودان وأمن المنطقة، وهذه ملفات إستراتيجية، والآن التطورات السياسية واحتمالات الحرب من خلال الشد والجذب الذي ظهر في الساحة بين الشريكين أصبح أكبر من احتمالات الانسجام، ولهذا السبب يعتقد د. عمر أنهما جاءا - أبو الغيط وعمر سليمان - ليجنِّبا المنطقة الانفجار وينزعا فتيل الحرب ويدفعا الأمور في اتجاه السلام من خلال إزالة الخلافات حول أبيي والحدود، وقال: رغم الحديث السياسي لكن شرارة الحرب أراها قريبة جداً، والحكومة المركزية موقفها واضح، لكن الحركة الشعبية مازالت ترفض ترسيم الحدود، وربما يحاولان - الموفدان المصريان - مناقشة الحكومة في موضوع تأجيل الاستفتاء، على ضوء تطرُّق وزير الدفاع له أثناء زيارته القاهرة. واختتم د. عمر حديثه بقوله: الزيارة تهدف إلى تخفيض التوتر في القطاع الامني وليس السياسي، لأنّه على المستوى السياسي مصر أصبحت أكثر رغبة في قيام علاقات مع الجنوب والتعامل بمنطق الأمر الواقع، لكن أمنيّاً لن تقبل مصر قيام حرب جديدة في المنطقة. فيما ذهب د. حيدر إبراهيم، رئيس مركز الدراسات السودانية، في اتجاه مختلف، حينما قال: لا أرى معنى لهذه الزيارة أو قيمة سياسية ودبلوماسية، وأعتقد أن مسألة المفاوضات والمشاورات قد تجاوزها الزمن، إلا إذا كان هناك جديد. والسؤال المشروع هنا: هل تحمل الزيارة جديد فعلاً أم أنها ستبقى محصورة في الأطر الدبلوماسية والإعلاميّة؟