الحلنقي هو طعم الإحساس المتفجر، وهو ريحانة تتراقص بين الشهب، بينه وبين الشمس ضياء النهارات وإشراقات المساء، «أقابلك وكلّي حنية، وأخاف من نظرتك ليَّ وأخاف شوق العمر كله، يفاجئك يوم بعينيَّ وراء البسمات كتمت دموع، بكيت من غير تحس بيا». هكذا يكون الفرح المخبوء، والبسمة المدسوسة خلف تلك الأحزان، المشاعر في عرفه نبض كامن في الأعماق، تتغذى بالدم وبالأوكسجين. الحلنقي ضد السرطانات، والحميات، والأوبئة.. يكتب أشعاره لسكان المناطق الحارة، فيتم تطعيمهم بمصل الإحساس المتفجر، فيكتب لهم الزمن روشتة الخروج. تعالوا لندرك أن الحلنقي يجعل الشوق عبقاً وحركة ودراما تتصالح مع العيون المتلهفة، «لو وشوش صوت الريح في الباب يسبقنا الشوق قبل العينين». الحلنقي يختصر مسافات التباريح بنشوة الآهات المختزنة، ورغم نداءاته المتكسرة تحت ألوية الخضوع، «تعال قبل السنين تجري وتعال فرِّح ليالينا». وإسحاق الحلنقي من طينة الشعراء الذين يدركون حجم عطاء الفنان، ويُلبس كل مبدع مقاسه، فهو قدم «رحلة عصافير الخريف»، و«تودعنا وتبخل بالصورة» للعملاق وردي، وقدم «بتتعلم من الأيام»، و«شال النوار» للموسيقار محمد الأمين، وقدم «العنبة» للتاج مكي، و«المشكلة» لفرفور، و«أعذريني» لسيف الجامعة، وغيرها من الروائع، فهو يمزج كل هذه الأشياء ويضعها في ميزان النسبة والتناسب. الحلنقي ومضة في دياجير العتمة، وبسمة على شفاة جافة، وهو خير من قدم نموذج الشعر الغنائي السوداني، وجعلنا نحتفي بالمعالجة على نبض الإحساس ودقة المعايير في فرض كينونة الإنسان السوداني الذوّاق للكلمة والنغم الجميل، والحلنقي أصبح عزيزاً في نفوس وعقول السودانيين بكافة ميولهم وثقافاتهم. «نامت أحزان عمري غنى زماني واتلاشت صعاب أنا قبلك الأيام قضيتها سراب يسلمني لسراب» فتعالوا معاً لنلج إلى دواخل هذا الفنان المبدع!! { قلت له: ولدت ونشأت بكسلا، وترعرعت في أم درمان، وقضيت أحلى أيامك بالخليج، الغربة وأثرها في شعرك؟ - نعم ولدت بكسلا وترعرعت في أم درمان، ولكن الغربة عن الوطن أخذت مني عافية العيون، ورمت بي كفيفاً يتوكأ على عكازة من الذكريات. { أين يقف الحلنقي؟ - أقف في مقدمة من صدرت عليهم أحكام بالمنفى لأنهم تعلموا كيف يتكلمون بلغة العصافير. { ما هو ترتيبك في الأسرة؟ - السادس، لذلك فهو رقم الحظ المفضل لدي في لعبة (روليت الحياة). { الحلنقي شاعر غرد للحب والجمال، أين تجد قمة الحب؟ - أجد قمة الحب في عينيْ والدتي الراحلة (عائشة) عليها الرحمة، بعد رحيلها اتجه الحب نحو الطرف الآخر من النهر. { حياتك، ما الذي يميزها؟ وما هي أكبر عيوبك؟ - الذي يميز حياتي إيماني التام بأن الخنجر يمكن أن ينكسر أمام الوردة لو أحبها بصدق، أما أكبر عيوبي فهي الحنيّة، ثم الحنيّة. { ما هو الشيء الذي تفخر به في حياتك؟ - يكفي أنّ والدتي رحلت ذات يوم خريفي وهي راضية عني. { كيف يعبّر الحلنقي عن حزنه وغضبه؟ - غالباً ما أتجمل بالصبر، وأنا أعلم أنه انتصار في أصله هزيمة. { قلبك لو طلب منك أن تتنازل عنه؛ لمن تعطيه؟ - لن أعطيه لأحد من الناس إلا إذا كان يفوقني جمالاً. { ما هو الحال الذي يعيشه الوسط الفني؟ - هبوط حاد في جماليات الأغنية، تقوم به مجموعة من قتلة الإبداع من أصحاب الأغنيات المصابة بالسعال الديكي. { أين يكمن سر خلود الأغنيات القديمة والألحان العذبة؟ - يكمن في أنها ولدت بين قمرين في ليلة كانت تمطر صدقاً لا يخالطه دنس من الأكاذيب. { لو وشوش صوت الريح في الباب يسبقنا الشوق قبل العينين، مقارنة ب «مشكلة» فرفور وأخواتها؟ - كلهن بناتي من دمي وابتسامي، لا أفضل واحدة على الأخرى ولو ولدت وهي معاقة في الشكل والمضمون. { القصيدة التي كتبتها ولا تحبها؟ - لم توجد هذه القصيدة بين أنفاسي، ولن توجد. أنا نهر تشرب منه العصافير قبل البدء في المناجاة. { ما هو سر نجاحك الشعري؟ وما الذي يشعرك بالاضطهاد؟ - ليتك تعلم أخي عبد الباقي أنني أكتب الشعر بنفس البساطة التي أمسح بها على ضفائر طفلتي، أما عن إحساسي بالاضطهاد فإن جنازيره السوداء معدومة في حياتي. { إذا أنت رئيس جمهورية الحب، من ترشحه نائباً لك؟ - لو كان لي ابن شاعر لورثته جمهورية شعبها من العصافير وجيشها من الحنية، ولكن الموهبة لا تورث. {هل هناك أشياء بخلاف الموهبة يتطلب وجودها في الشاعر؟ - في رأيي أن طفولة الوجدان تعد عاملاً أساسياً في النهوض بالموهبة إلى أعلى درجات التألق الجمالي. { متى يبكي الحلنقي؟ - الذي يبكيني أن أرى الجبروت المادي قد أصدر أمراً بالموت الجماعي لعصافير الخريف المتجهة شرقاً. { ما هي قضيتك كإنسان؟ - قضيتي كإنسان هي سعيي المستمر لأن تدخل الكلمة الشاعرة إلى كل البيوت تماماً كالخبز والماء. { هل الأنثى ملهمة وعاطفة فقط، أم شريك وعقل؟ - الأنثى هي الارتحال على خيوط من ضوء إلى عالم لا يحكمه عقل يرقّم الأشياء، الأنثى هي الفوضى في غابة من البنفسج. { متى تطلع الشعيرات البيضاء في قلبك؟ - لن تطلع شعرة بيضاء في قلبي إلا إذا تحولت اللؤلؤة إلى مجرد حجر على طريق، أو تنازلت الفراشة عن ألوانها للأفاعي. { أيهما تتفوق على الأخرى: المرأة الحقيقية أم المرأة القصيدة؟ - المرأة القصيدة بلا منازع هي المتفوقة لاستمرار بريقها، أما المرأة الحقيقية فإن مرور السنين لا بد أن يعمل على تجريدها من الأوسمة، فتصبح مجرد عود ذابل. { فنان تمنحه اذنك وشاعر أنت به معجب؟ - الفنان الراحل العاقب محمد حسن هو الذي امنحه كل رعشة في كياني، أما شاعري الذي يضعني أمام كوخ عند البحر في أمسية صيف هو قيصر الأغنية السودانية حسين بازرعة. { لو أصبحت لوحدك في هذا الكون، ماذا أنت فاعل؟ - لن يهمني ذلك؛ لأنني أحمل في دواخلي كوناً آخر. { ماذا يعني لك النهار والليل؟ - النهار هو ابتسامة حبيبتي، أما الليل فهو ضفائرها. { بيت شعر لغيرك تمنيت أن يكون لك؟ - «بهرب منك لرضاك وبحاول من أجلك أنساك»، وهو مقطع من رائعة الشاعر الطاهر إبراهيم (كنت معاك سعيد).