يعتبر د. التيجاني عبد القادر من الحركيين الذي أبدوا حضوراً مميزاً على مستوى الشأن العام من خلال مشاركاته السياسية والفكرية التي قدمته للمجتمع كمفكر إسلامي وباحث أثرى المكتبات العامة بإصداراته التي استهدت بمرجعيات أهل العلم.. ومن بعد استطاعت التأسيس لبنية فكرية وسياسية، كانت محل احتفاء المهتمين. كذلك يعتبر د. التيجاني من أبرز الشخصيات التي أسهمت في صياغة مشروع الحركة الإسلامية، وحينما استلمت حركته السلطة بادر بسكب عصارة علمه من أجل تقديم أنموذج الدولة الإسلامية، لكن يبدو أن زهده وخبرته مكّناه من تقييم تجربة الإسلاميين في الحكم منذ وقت مبكر والحكم عليها من موقع المراقب الحصيف بعيداً عن التعقيدات التنظيمية الملزمة، لذلك فضل التمرد على سلطة الحركة الإسلامية وربما على التزاماتها التنظيمية طالما أنها أصبحت لا تتوافق مع قناعاته، وبحسب إفادات المقربين منه فإن أول خطوة اتخذها في هذا الاتجاه هي قراره بمغادرة البلاد إلى ماليزيا، والثورة ما زالت في سنواتها الأولى، إلى أن استقر بدولة الإمارات، وظل يتابع ويراقب المشهد السوداني من خارج الحدود، ويقدم قراءته المثيرة للجدل، والحال كذلك كان قبل أربعة أعوام حينما كسر حاجز صمت الكتّاب الإسلاميين عندما قام بتقديم رؤية نقدية للدولة عبر سلسلة من المقالات ابتدرها بعنوان: (العسكريون الإسلاميون أمناء على السلطة أم شركاء فيها) وختمها بمقالات: (العسكريون الإسلاميون شركاء في السلطة أم مالكون لها)؟ وحظيت هذه الكتابات بردود فعل كبيرة، وربما خضعت للدراسة والنظر من أهل السلطة وقتئذ، خاصة أنه نبّه إلى سيطرة الأمن على دولة الحركة. الآن عاد د. التيجاني من جديد إلى طرح الأفكار الجديدة التي تزامنت مع جملة تحديات وقرارات مصيرية تنتظر بلده. (الأهرام اليوم) اتصلت على د. التيجاني عبد القادر بمكان إقامته بالخارج وطرحت عليه عدداً من الأسئلة عبر الشبكة العنكبوتية لتعرف ما يدور في ذهنه من أفكار وكانت هذه حصيلة إفاداته: { كيف تبدو لك صورة المشهد السياسي السوداني على ضوء اقتراب الاستفتاء؟ - وقّع الشريكان على اتفاقية نيفاشا عام 2005م، ومنذ ذلك الحين صارت أجندة السياسة السودانية تدور حول تنفيذ بنود الاتفاقية، هبوطاً وصعوداً، بحسب توازن القوى بين الشريكين، وبحسب الضغوط الداخلية والخارجية التي كانا يتعرضان لها. أما الاستفتاء، فسواء جرّ معه احتكاكات وتأزماً في العلاقة بين الشريكين، أو مضى الى نهاياته بسلام؛ فسيؤدي إلى تغيير «نوعي» في السياسة السودانية. { ماذا تقصد بهذا التغيير النوعي وماهي آثاره.. هل سالبة أم موجبة؟ - ما من نظام إلا ويتكون من أجزاء أو متغيرات متعاضدة، فإذا حدث تغيير في واحد من أجزاء النظام، فإنه سيترتب على ذلك تغيير في أجزاء النظام الأخرى، وربما في أهدافه وفي مجمل أدائه، وقد ظلت مشكلة جنوب السودان تمثل، كما تعلمين، واحدة من مكونات النظام السياسي السوداني طيلة الخمسين سنة الماضية، فإذا تم إسقاط هذا المكون فسوف يؤثر ذلك بلا شك على التوازن المعهود بين بقية أجزاء النظام، فتتغير تبعاً لذلك أهدافه، أو أداؤه العام، أو قد تتغير طريقة تأقلمه مع البيئة الداخلية والخارجية، وذلك حتى يتأتى له التوصل إلى صيغة جديدة من صيغ التوازن، تكون مختلفة نوعياً عن صيغ التوازن السابقة. { حسناً.. ماهي الآثار السياسية والاقتصادية المترتبة حال انفصال الجنوب؟ - الآثار السياسية أشرت إليها آنفاً، أما الآثار الاقتصادية فقد لا يدرك حقيقتها إلا من يقوم بصورة مباشرة على إدارة المؤسسات الاقتصادية، ولكني لا أتصور أن تكون مدمرة بالصورة التي يتوقعها البعض. { على أي شيء استندتم في هذا التوقع؟ - ما قلته يجيء في سياق الحديث عن اعتماد الاقتصاد السوداني على النفط، وقد استندت على إحصاءات وزارة النفط وتصريحات المسؤولين فيها، حيث يؤكدون أن إنتاجية حقول الشمال تصل إلى (100) ألف برميل يومياً (من جملة (450) ألف برميل) وهو ما يغطي الاستهلاك الفعلي. (انظر تصريحات وزير الدولة بوزارة النفط، الأحداث، 22 نوفمبر 2010م). { إذن.. وبحسب ما يجري في الساحة السياسية السودانية؛ هل أصبح الانفصال خياراً شعبياً لمواطني الجنوب، أم أن النخبة الحاكمة هي من يبلور الخيار؟ - طبعاً النخب الحاكمة هي التي بلورت رؤية لمشكلة الجنوب من قبل، وهي التي بلورت مشروع الحرب والسلام، وهي التي تبلور الآن مشروع الانفصال، وهذا أمر مفهوم وغير مستغرب في حالة الدول النامية عموماً، وفي الحالة الأفريقية على وجه الخصوص. ولكن ذلك لا يعني بحال أن المواطن الجنوبي غافل تماماً عما يجري حوله، وأن النخب هي التي تصنع خياراته بصورة مطلقة. { برأيك، لماذا تحولت قناعات بعض القيادات الجنوبية من وحدة لانفصال؟ - ليست القناعات وحدها هي التي تحرك السياسيين، سواء أكانوا في الشمال أو الجنوب؛ بقدر ما تحركهم المصالح وموازين القوى المحلية والدولية. ثم من قال إن بعض القيادات الجنوبية التي صارت تؤيد الانفصال قد كانت تؤيد الوحدة من قبل؟ { كيف تنظرون إلى واقع الأوضاع في الجنوب إذا أصبح دولة ذات سيادة؟ - هناك احتمالات ثلاثة: أن يتحول إلى واحة للسلام والديمقراطية والتنمية، وهذا احتمال موغل في الرومانسية وبعيد عن الواقع لأسباب كثيرة. وأن يتحول الى ساحة للنزاعات القبلية والحروب الأهلية التي لا تنقطع، وهذا احتمال موغل في التشاؤم ولكنه محتمل الحدوث. والاحتمال الثالث هو أن تسير الحركة الشعبية في الجنوب علي النحو الأوتقراطي المعهود، زعيم كبير تحيط به بطانته الخاصة، ثم يلتف حول هذه الدائرة جهاز أمني مهيمن، يضع يمينه على القوة العسكرية، ويساره على الحزب الحاكم، ومؤسسات الدولة. وهذا هو الاحتمال الراجح في تقديري، الذي تسير عليه كثير من دول الجوار الأفريقي. { وصفت الاحتمال الأول بأنه موغل في الرومانسية، على ماذا تستند في هذا الاعتقاد؟ - قلت إنه احتمال موغل في الرومانسية استناداً على تكوين الحركة الشعبية ذاتها، وعلى سجلها في الممارسة السياسية، فهي حركة عسكرية في بنيتها الأساسية، أنشأتها عناصر عسكرية، ولم تزل تهيمن عليها. أما من حيث الممارسة فهي لم تكن مثالاً للديمقراطية في مرحلة ما قبل اتفاقية السلام، أو ما بعدها، فكيف نتوقع أن تتحول بين عشية وضحاها إلى واحة للديمقراطية؟ أما أني استبعدت أن يتحول الجنوب الى واحة من السلام فذلك يرجع الى التناقضات الحادة التي تمور بها البيئة السياسية في الجنوب، التي تنذر بالانفجار بين لحظة والأخرى. { بعض المراقبين للساحة السياسية يرون إمكانية فتح الحوار حول هوية الدولة من جديد من أجل ترجيح خيار الوحدة، فهل يملك مثل الرأي الحل؟ - لا أعتقد أن الحركة الشعبية تخيَّرت الانفصال لأمر يتعلق بهوية الدولة، وأنه إذا فُتح حوار حولها فستعود لتؤيد خيار الوحدة، خاصةً وأن مسألة الهوية قد قُتلت نقاشاً في المفاوضات، وقد قبلت الحركة الشعبية بالصيغة التي وردت في الاتفاقية. { آخرون تحدثوا عن بناء علاقات بين الشمال وأمريكا وإسرائيل ماذا أنت قائل؟ - لا أعلم عن هؤلاء الآخرين، ولا علم لي بما يقولون. { كذلك هنالك من ينوون تحميل الإسلاميين مسؤولية فشل إدارة الدولة، إذا انفصل الجنوب عندئذٍ من يتحمل المسؤولية؟ - كل الأحزاب السودانية تقريباً قد وافقت بصورة من الصور على ضرورة إعطاء الجنوب حق تقرير المصير، ومن يوافق على حق تقرير المصير لابد أن يوافق على نتائجه، حتى ولو كانت انفصالاً، وأن يتحمل مسؤولية ذلك. { كيف تنظر إلى الدور الدولي والإقليمي قبل الاستفتاء وبعده؟ - لعبت المنظمات العربية والأفريقية دوراً مقدراً في حل مشاكل الشريكين، ولكن ما حكّ جلدك مثل ظفرك. { على ضوء المشاكل العالقة بين الشريكين، ما مدى إمكانية إيجاد حلول؟ - ما زالت الوساطات (تقوم وتقع)، فلننتظر قليلاً. { ما هي توقعاتك لمآلات مشكلة دارفور عقب الاستفتاء؟ - لا أعرف كيف ستكون نتيجة الاستفتاء، ولا أعرف بالتالي ما سيترتب عليها في دارفور. { بمعني آخر؛ هل من قراءة تحليلية للمآلات في حالتيْ الوحدة والانفصال؟ - أعتقد أنه إذا انفصلت الحركة الشعبية بجنوب السودان، قبل أن يتم اتفاق مناسب مع الحركات المقاتلة في دارفور؛ فإن ذلك سيزيد الأمور تعقيداً، خاصةً إذا تمادت الحركة الشعبية في اتجاه التحالف مع تلك الحركات ومدها بالعتاد العسكري. { هل ما زالت المفاوضات هي الآلية المناسبة لحل الأزمة؟ - نعم، لا أعرف طريقاً لحل الأزمة غير طريق التفاوض، حتى إذا اندلعت الحرب مرة أخرى، فلابد أن يعود الطرفان المتحاربان إلى طاولة المفاوضات، طال الزمان أم قصر. { كيف ترى مستقبل دارفور الاجتماعي والسياسي؟ - إذا تم التراضي على صيغة للسلام في دارفور؛ فإن الإقليم قادر بلا شك على الوقوف على رجليه مرة أخرى، وسيعود أبناء دارفور ليلعبوا دورهم الطبيعي والطليعي في نهضة الوطن وتعميره. { القواسم المشتركة بين الإسلاميين هل يمكن أن تعيدهم إلى حزب واحد؟ - إن باب الإمكان واسع بالطبع، ولكني غير متأكد ما إذا كانت القواسم المشتركة وحدها تكفي؛ إذ أن هذه القواسم كانت موجودة حينما وقع الانشقاق. { إذن، ما تفسيركم لتعنُّت القيادات بالحزبين (الشعبي والوطني) في ما يخص التوحُّد لمجابهة تحديات ما بعد الانفصال، رغم الدعوات المتكررة من المهتمين بضرورة الاتفاق والتوحُّد؟ - أعتقد أن التعنُّت يمكن إرجاعه للفجوة النفسية التي نمت واتَّسعت بين القيادات في الطرفين، وتزيد من اتِّساعها الأجنحة التي نشأت حديثاً، وصارت تقتات من الانشقاق، وتخشى أن تذهب الوحدة ببريقها. { ما تقييمكم لدور القوى السياسية في ظل الوضع الراهن، وماذا يريد الترابي، الصادق والميرغني؟ - القوى السياسية السودانية كثيرة ومتنوعة ولها حضور ملحوظ في الساحة السياسية، ولكن ليست لديّ وسيلة علمية أو فنية لتقييم أدوارها، أو أتعرف على أوزانها، أما ماذا يريد الترابي والصادق والميرغني، فهذا سؤال يُوجَّه لهم، وإن كنت لا أعتقد أنه من المناسب أن نطرح مثل هذا السؤال على من أفنوا زهرة شبابهم في خدمة قضايا الوطن. { أنا أقصد من تساؤلي تقديم رؤية تحليلية من خلال ما يقومون به من أدوار في الساحة السياسية. هل تعتقد أنها يمكن أن تقود لحل مشكلة السودان؟ - ظل هؤلاء الزعماء يقومون بأدوار كبيرة ومقدرة في السياسة السودانية طيلة الخمسين سنة الماضية، غير أن الملاحظ من جهة أن عطاءهم بدأ يتناقص، ثم من الجهة الأخرى تمسكهم بالزعامة صار يتزايد، وهذا التناقض قد لا يستمر طويلاً، ولكنه إذا استمر فستزداد به الساحة السياسية ارتباكاً وضعفاً. { المهتمون بالشأن السياسي العام رسموا صورة قاتمة لمستقبل السودان على ضوء اقتراب الاستفتاء، والشارع العام تسوده مخاوف عديدة من حدوث سيناريوهات قد تقود البلاد إلى حروب، فكيف ترى صورة المشهد القادم في السودان؟ - لا شك أن السودان يمر بأزمة سياسية حرجة، ولكن إذا تحلينا بقدر من الصبر والوعي والحكمة فقد نتجاوزها؛ فالشعوب الكبيرة لا تقتلها الأزمات، ولكن يقتلها القادة الصغار المتشائمون.