إحدى خالاتي تركت الخرطوم منذ أسبوع في طريقها إلى مضاربنا التي تبعد أربعمائة كيلومتر شمالاً، وذلك حتى لا تشهد (حادثة الانفصال) بحي الخرطوم تلاتة حيث منزل الأسرة، وما زالت ذاكرتها محملة بأحداث (الاثنين الأسود)، فكل تلك السنين التي مضت لم تمح من ذاكرتها تلك المشاهد المرعبة، وكلما لقيتني تسألني كم (اثنين أسود) في الطريق؟، على افتراض أن قبيلة الإعلام تمتلك المعلومات والقراءات، وهي لا تفرق يومئذ بين طبيعة الممارسات والمناسبات، فكل مناسبة يشترك فيها طرف جنوبي هي مشروع ل(اثنين أسود) آخر، وذلك حسب هواجسها. اعترتها هذه الحالة بشدة في مواسم الانتخابات الفائتة، لكنها هذه المرة رأت في عملية الاستفتاء كما لو أنها يوم (الاثنين الأكبر)، الاثنين الأخير، على طريقة «العشاء الأخير». خالتي هذه ليست وحدها فهناك الكثيرون الذين لم يتمكنوا من التخلص من (الخوفة) التي دخلت قلوبهم ولم تخرج حتى يوم الناس هذا، والمناسبات كلها بمثابة مطبات عندهم، بحيث لا تخلو من السيناريوهات والدراما وثقافة المؤامرة، ومثل هؤلاء الناس ربما خيار الوحدة إذا ما حدث يمثل لهم صدمة مذهلة، وذلك لفرط أشواقهم بأن الاستفتاء فرصة ممتازة للتخلص من هواجس (الاثنينات السود) بلا رجعة. رأيت أن أقول إن لا شيء بطبيعة الحال سيحدث في الخرطوم غداة تقرير الانفصال وذلك لعدة أسباب منطقية، أولاً أن الإخوة الجنوبيين لم يبق منهم الكثير بالشمال، وحتى الذين بقوا هم من أنصار الوحدة أصلاً، أنصار التعايش والتمازج، فليست هنالك أدنى نسبة لقيام (حالة اثنينية) ولو للحظات، فضلاً عن أن الشمال تحرسه تجربة تراكمية هائلة في احتضان الإخوة الجنوبيين، وهذه ثقافة إن خذلها التاريخ والتجارب التراكمية فلن يسعفها أي احتمال «لتراخ أمني» محتمل، فهنالك أكثر من ثلاثين ألف شرطي منتشرين في كل الأنحاء لحراسة الاستفتاء. والذين يتحدثون عن حالة صدمة في الشمال غداة تقرير الانفصال هم بالأحرى يروّجون لبضاعة بائرة لن يشتريها أحد، بضاعة كاسدة تماماً، فربما يحزن البعض ولبعض الوقت ثم يذهبون في حالهم، صحيح أن بعض الذكريات المؤلمة التي يحتفظ بها البعض، من أمثال خالتي، توشك أن تدفع بعضهم ليخرجوا إلى الشوارع للاحتفال (بذهاب الاثنينات السود)، وبالمناسبة إن الذين دبّروا حادثة الاغتيال، ثم تراجيديا (الاثنين الأسود) و(الثلاثاء الأبيض)، هم الذين دقّوا آخر مسمار في نعش جسد مشروع الوحدة الجاذبة، وأنهم بتلك الأفعال قد حطموا في لحظة يأس كل ما صنعه المخلصون من الجانبين خلال نصف قرن من التداخل والتعايش. لكن موضوعي (وبيت قصيدي) هو إرسال رسائل طمأنه تسندها الوقائع والشواهد، وليس مجرد أمان وأشواق، بأن (قيامة السودان) لن تقوم مع أحداث التاسع من يناير، وربما يحدث العكس تماماً، أن تدخل الدولتان في حالة سلام حقيقية، سلام تصنعه المصالح المشتركة، وإذا تجاوزنا نشيد وهتاف (الدماء والأنساب والسنين والأرحام)، ففي المقابل ليس بإمكان أحد في الجانبين أن يتجاوز مصالح النفط والمياه التي هي بمثابة الشرايين والأوردة في جسد واحد، فضلاً عن أن المعركة الأولى للإخوة الجنوبيين والدولة الجديدة هي ضد الفقر والمسكنة، هي بالأحرى معركة البناء والنهضة وتشييد البنيات الأساسية، فالموجود من هذه الدولة حتى الآن لا يتعدى «العلم والنشيد الجمهوري»، والدول لا تصنع بالأناشيد والأعلام وتكديس الأسلحة، وسيدرك القوم لاحقاً أن الأولوية كان ينبغي أن تكون لصناعة المخزون الإستراتيجي من الغذاء، وليس جلب «مخزون إستراتيجي من أسلحة الدمار»، فثمن كل دبابة كفيل بصناعة مزرعة تؤوي وتطعم عشر أسر عائدة بحالها. مخرج.. سيمر الاستفتاء كما مرت الانتخابات، وسيدرك الجنوب بعد ثلاثة أيام فقط من احتفالات الاستقلال الصاخبة، بأن الاستقلال الحقيقي هو صناعة الخبز والمدارس والمشافي. وللحديث بقية..