لا تقاس الأوطان العظيمة بمساحتها، وإنما بشكل الحياة فيها وبدور شعوبها وإسهام هذه الشعوب في الحضارة الانسانية وفي الإرتقاء بالجنس البشري. ولقد كانت بريطانيا مثلاً تشغل مساحة صغيرة في أقصى شمال الكرة الأرضية لكنها هي التي تصدرت الثورة الصناعية وهي التي أقامت الديمقراطية- وليكن أن أثينا سبقتها- ورسختها وطورتها حتى أصبحت هي المذهب السياسي الذي تهفو لتطبيقه الشعوب في مشارق الأرض ومغاربها، وهي التي ابتدعت كرة القدم وأنجبت شكسبير وديكينز وجورج أورويل إلخ.. وكنا قبل الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان مسرفين في شغفنا ومباهاتنا بمساحة السودان التي هي مليون ميل مربع، والحقيقة أنها كانت تقل قليلاً عن المليون- وكنا بمناسبة وبغير مناسبة نصف السودان منتفشين متبخترين مزهوين بأنه بلد المليون ميل مربع متاجهلين متعامين عن حقيقة أن الكيف أهم من الكم - ولم يكن أصلاً لتلك المباهاة بكبر مساحة السودان على المستويين العربي والأفريقي أي داع وأي معنى. وحتى مطلع تسعينيات القرن الماضي كانت هناك دولة اسمها الاتحاد السوفيتي وكانت هذه الدولة مؤلفة من عدة جمهوريات وكانت تشغل سدس مساحة الكرة الأرضية. ثم اختفت هذه الدولة رغم أنها كانت قوية وكانت نووية وكانت تصنف بأنها القوة العظمى الثانية في العالم بعد القوى العظمى الأولى التي هي الولاياتالمتحدةالأمريكية- لقد اختفت هذه الدولة من الوجود ولم يعد لها مكان في الأطلس ولا في الواقع. وبقيت دولة أصغر من ولاية الخرطوم مثل سويسرا! رغم تعدد اللغات ورغم ما يكروسكوبية المساحة الجغرافية، وإذن فإن العبرة ليست بالكم وإنما بالكيف. وقال مرة الشيخ جمال البنا شقيق الشيخ المرحوم حسن البنا الذي أسس عام 1928م في الإسماعيلية بمصر جماعة الإخوان المسلمين «إن الشريعة الإسلامية ليست مطبقة في إيران ولا في المملكة العربية السعودية ولا في السودان لكنها مطبقة في سويسرا!!». وما أراد أن يوضحه الشيخ البنا هو أن الأساسيات التي دعا لها الإسلام وحضّ عليها مثل العدل والأمانة والنظافة والمساواة وحب العمل موجودة في سويسرا المسيحية أكثر مما هي موجودة في الدول المسلمة أو الإسلامية التي ذكرها. وما أردنا أن نوضحه نحن أن صغر المساحة الجغرافية ليس عيباً وليس عائقاً إذا ما كانت همم المقيمين في مناكبها عالية وفي نفس الوقت فإن المساحات الكبيرة «الحدادية المدادية» لا تكفي وحدها لنشوء الأوطان العظيمة.