رسالة أنيقة ومفعمة بالأصالة والقيم النبيلة تلقيتها من الأخ الحبيب سيف الدين عبد العزيز إبراهيم وهو محلل اقتصادي يقيم ويعمل بالولاياتالمتحدةالأمريكية. ويقيني أن المقال تناول عدة زوايا مهمة تلمس جوانبنا المهنية وهي تهم القارئ على وجه العموم ولها أهمية أو قل عدة أهميات على وجه الخصوص لدي تخاطب الجانبين المهني والإنساني. يقول الأخ سيف الدين في مقاله: في نهاية التسعينات وبداية حياتي العملية اتيحت لي الفرصة بالسفر إلى النرويج ضمن فريق مشارك في مؤتمر اقتصادي في مدينة بيرغن الجميلة وكنت حينها أشعر بالفخر والزهو لاختياري لذلك المؤتمر المهم رغم أن مشاركتي في ذلك المؤتمر كانت ضمن (الحاشية) فقط ولم أكن حينها (لاعباً أساسياً) بعد حيث كانت رئيسة فريق العمل التي اصطحبتنا تتحوط لكل ما يمكن أن يحدث وتتحسب لكل الأسئلة التي قد تطرأ وتطرح عليها من المشاركين في ذلك المؤتمر ولذلك اصطحبت معها كل الذين شاركوا في إعداد الدراسة التي كانت تنوي تقديمها. في ذلك المؤتمر فوجئت وبكل فخر بأن الشخص الذي كان يدير جلساته وأدار معظم وأهم النقاشات به كان سودانياً يحمل الجنسية الأمريكية وكان رجلا متقدما في السن وعلى أعتاب المعاش لا تسعفني الذاكرة باسمه الآن وقد كان مهندساً سابقاً بوكالة الفضاء الأمريكية (ناسا). وفي إحدى الاستراحات ولدهشتي اقترب مني وذكر لي بأن اسمي (المكتوب على البطاقة المعلقة على صدري) قد لفت نظره إلي فاخبرته بأني سوداني ولكني قدمت ضمن الفريق الأمريكي القادم من نيويورك وحينها تحول الى اللغة العربية وسألني (يا وليدي انت من وين في السودان؟). تجاذبت معه حديثا شيقا وذكر لي انه أصبح يلحظ في السنوات الأخيرة وفي التسعينات بالذات كثرة السودانيين العاملين في المؤسسات والمحافل الدولية مما أثار فخره بعد أن كانت أعداد السودانيين المشاركيين في المحافل الدولية محدودة نوعا ما في السابق حسب تقديره. تلك المقولة أصبحت استرجعها طيلة سنوات عملي التي تلت تلك البداية حيث تعودت أنا وكثير من أبناء جيلي الذين انخرطوا في العمل بالدول الغربية والعربية على الالتقاء والتفاعل مع بعضنا قادمين ضمن وفود من بلدان مختلفة حيث ذكر لي صديق أكاديمي كان مشاركا في مؤتمر دولي بألمانيا وكان هو ضمن فريق من الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم وكان ذلك الوفد يضم سبعة متخصصين يحملون الجنسية الأمريكية والطريف أن ثلاثة منهم كانوا من أصول سودانية، سوري وآخر صيني والبقية الاثنيين من (أصل أمريكي). من بعض النكات الطريفة التي يتناولها بعض أصدقائي (أنه لو رفعت طوبة في جامعة أمريكية بتلقى تحتها أستاذ سوداني) (وإذا فلقتك تلك الطوبة في رأسك ومشيت مستشفى بيعالجك دكتور سوداني) وعلى ذلك قِس في مؤسسات وشركات كبرى على مستوى العالم عموما وفي الولاياتالمتحدة أو أوروبا على وجه الخصوص تجد أو تلحظ ازديادا في أعداد السودانيين وهذا العدد يزداد في منطقة الخليج بصورة أكبر أيضا. وهذا شيء طيب نستحسنه في هذا الزمن الذي ارتبط فيه ذكر اسم السودان بالأخبار السالبة التي تتصدر صفحات الصحف ووسائل الإعلام التي أساءت للوطن سواء كانت بسبب أفعال بنيه أنفسهم وبيدهم أو بفعل فاعل غير أبنائه. هذا المنحى يسهم وإلى حد بعيد في تأصيل وتفعيل مفهوم هجرة العقول الذي يعتبره الكثيرون سلاحاً ذا حدين؛ حيث تكتسب الدول خبرات أجنبية من خلال أبنائها الجالبين لتلك الخبرة وفي نفس الوقت يحرمها من خبراتهم وخدماتهم بداخلها في حالة عدم توفر الظروف والعوامل الجاذبة لهم بالعودة. أداء السودانيين ووجودهم الفاعل أكاديميا ومهنيا في المحافل الدولية وفي شتى التخصصات ليس موضع جدل بل هو محل فخرنا جميعا وهو شيء يخفف علينا ما نمر به ويمر به بلدنا المكلوم ويزيدني حبا لهذا الوطن وفخرا به. سبب تلك المقدمة هو انه أتاح لي وجودي بدولة الإمارت خلال الفترة القصيرة السابقة الفرصة لمشاهدة قنوات تلفزيونية سودانية عديدة لم أحظَ بمشاهدتها خلال إقامتي بالولاياتالمتحدة ومن تلك السوانح هي الفرصة الطيبة لمشاهدة شخصية تلفزيونية ومقدم برنامج علمت لاحقا أنه كان له وجود مميز في السودان في بداية حياته العملية ومنها انتقل الى دولة الإمارات وتنقل فيها وهو الآن مذيع بمحطة (سي أن بي سي العربية). هذا المذيع هو الطيب عبد الماجد وللمعلومية أنا لا تربطني به أية علاقة ولم ألتقِ به في حياتي (رغم أنني علمت أنه زار الولاياتالمتحدة من قبل) ومعلوماتي عنه لا تتعدى ما تحصلت عليه من خلال المواقع الإلكترونية التي زرتها في إعدادي لكتابة هذا المقال وتناولي له هنا كمشاهد فقط حيث أني لست بناقد تلفزيوني متخصص ولكني مشاهد متفاعل وقمة تخصصي في هذا المجال هو صداقتي وعلاقتي المتينة مع أخي وصديق طفولتي المذيع المتميز واللغوي المتمكن الذي طالما علمنا النطق السليم للكلمات ألا وهو المذيع عبد الله محمد الحسن. ولكن هذا المذيع (الطيب عبد الماجد) لا تملك إلا وأن تحني له قبعتك احتراما كما تقول الفرنجة لما يتمتع به من إمكانيات هائلة وحضور إيقاعي وذهنية متقدة وإلمام يدلل على مدى الاستعداد والتحضير قبل تقديم مادته مما يعطيك الإحساس بالثقة المتناهية في المادة التي تطرح من خلال برنامجه. أول برنامج شاهدته له كان تعاونا بينه وبين تلفزيون السودان في رمضان المنصرم في برنامج اسمه (بيني وبينكم) وبعدها شاهدت له خلال عيد الأضحى المبارك برنامجا خاصا مع مجموعة فنانين وممثلين سوريين ومؤخرا سهرته مع البلابل، الموصلي وعلي السقيد. مشاهدتك ومتابعتك لهذا المبدع تجعلك تحس وكأنك تشاهد أعتى المحاورين العالميين الذين تشرفنا بمشاهدتهم عبر التلفزيون في الولاياتالمتحده أو أوروبا ومن بريطانيا بالتحديد حيث أكاد أن أجزم بأنه لا يقل فنيا عنهم بل يفوق الكثيرين من المذيعين العالميين ناهيك عن مذيعي منطقة الخليج. أنا كمهني أحترم المهنية جدا وتدريبي المهني الفني علمني أن أولى الإعداد جزءا كبيرا من الزمن والاهتمام لما له من تأثير على المنتوج سواء أكان ذلك في شكل التقارير التي تُقدم أو البحوث والمقالات التي تُنشر ولذلك أقدر وأثمن جهد هذا المبدع في الإعداد الذي يظهر جليا في مادته التي يتحفنا بها. وجوده وحضوره البلوري اعتبره شخصيا مفخرة لنا كسودانيين وهو امتداد لشخصيات وإعلاميين سودانيين أثروا منطقة الخليج بل والعالم حيث ظللنا نتابع الكثيرين الذين أربأ بنفسي عن ذكر أسمائهم حتى لا أقع في حرج النسيان لبعض الأسماء، ولكن الوجود الإعلامي السوداني متميز كتميز السودانيين المهنيين وهذا الوجود نلحظه في البي ب سي وبعض الوجوه الشابة في السي ان ان، أو إقليميا في الجزيرة وخلافه وكلهم مفخرة لنا ولكن أداء الطيب عبد الماجد لفت انتباهي. أنا كلي ثقة بأن هناك أكثر من (طيب عبد الماجد) في مختلف المحافل وفي الراديو والتلفزيون وكلهم يستحقون أن نفخر بهم ولكن هذا المبدع يستحق الوقفة والثناء. تجربتي الشخصية واحتكاكي بمحيطي المهني مع سودانيين على مستوى عالٍ من المهنية على المستوى العالمي أبانت لي أن الكثيرين من أبناء جيلي (وأنا أحدهم) لديهم الرغبة الجادة للعودة والانخراط في تطوير البلد بما تعلمنا واكتسبنا ولكن تجاربنا مع جيل (الكنكشة) الذي استأسد واستأثر بكل الوظائف والذي يؤمن تمام الإيمان أن وجوده من أبجديات العمل نفسه (وستزول وتموت) المؤسسة بغيابه ظل يقف (عتروسا) أمام الجميع وأوصد كل الأبواب في وجه غيره. وجود (جيل الكنكشة) ليس مبعث حيرتي وحده وإنما المحير أيضا هو غياب أية إستراتيجية سودانية متكاملة في استقطاب تدريجي لهذه العقول والكفاءات المهاجرة. صحيح أنا لا آمل خيرا في أن يأتي هذا الجهد أو تلك الإستراتيجية من قبل (حكومتنا الميمونة) لأن (جيل الكنكشة) يتمتع بعضوية فاعلة بها وأن الكثيرين من هؤلاء المهاجرين كانت هي السبب المباشر في فرارهم بجلدهم وفنهم ولكن الحيرة تأتي لعجز المؤسسات أو بالأحرى الشركات الكبرى الوطنية وغيرها في انتهاج تلك الإستراتيجية. ترغيب الجيل القادم للانخراط بها يأتي في مصلحة تلك المؤسسات وتبني مثل تلك السياسات في ترغيب هذه الخبرات بالعودة للمشاركة الفعلية أو في نطاق إطاري كمستشاريين يأتي بثمار في غاية الجودة. تغييرات المنظومة الإدارية والاستثمارية في العالم تحتم وتفرض على كل الشركات الجادة بالسعي المباشر والجاد في انتهاج سياسات تضمن لها استمرارية نجاح وتحقيق أرباح مستدامة أو متواصلة على وتيرة مقبولة لمُلاّك الأسهم مبتعدة تماما عن أية عقائدية أو شخصنة في اختيار منسوبيها وشرطها الفيصل في ذلك هو الكفاءة وترك نمط المحاباة والولاءات الضيقة للعمل التقليدي الذي أقعد الكثير من نشاط البلد الاستثماري لشركات أكل الدهر عليها وشرب ولمؤسسات معظمها حكومي انتهجت مفهوما استيعابيا اقل ما يوصف به أنه مضر لها اقتصاديا في المقام الأول؛ حيث أنها تنتهج ممارسات تشبه ما كان منتهجا من قبل راهبات العصور الوسطى في أوروبا للنأي بأنفسهن والهروب للتقليل من حدوث التحرش بهن من قبل الغزاة (بقطع أنوفهن لتشويه وجوههن لتقليل رغبة المعتدين بهن). هذا النهج المضر توجد له الكثير من الأمثلة ولكن لضيق المساحة في مقالي هذا سأكتفي بالإشارة لما يحدث في جامعة الخرطوم من تناقض كنت قد تناولته في مقال كامل موجّه إلى مدير وإدارة جامعة الخرطوم التي لها قانون أزلي يقول إنه لا يتم تعيين أي من خريجيها أستاذا بها إذا كان راسبا في إحدى موادها أو تأخر وأعاد عاما أكاديميا إبان دراسته بها بغض النظر عما وصل إليه من تعليم بعد تخرجه. في ذلك المقال أوردت أمثله لخريجين من جامعة الخرطوم واصلوا دراساتهم العليا وأتيت بثلاثة أمثلة لسودانيين يعملون أساتذة في هارفارد وبرينستون الأمريكيتين وآخر بمدرسة لندن للاقتصاد وتقدم ثلاثتهم على فترات مختلفة للالتحاق بجامعة الخرطوم وتم رفضهم بحجة وجود هذا القانون من العصر الحجري الذي ليس هو إلا وجه آخر من أسلحة جيل الكنكشة التي تستخدمه لإبعاد هؤلاء الشباب، والأدهى والأمر أن الرد الذي أتاني من مكتب مدير جامعة الخرطوم كان مخجلا ويشبه إلى حد كبير مفهوم (العذر الأقبح من الذنب) حيث ذكر لي (السيد المسؤول) بأنه يمكن استثناء (أصحابي) إذا رغبوا في حين أنني كنت أتناول الداء وهو القانون البالي بينما تتناول إدارة جامعة الخرطوم أعراض ذلك الداء بالمعالجة كعادة ونهج جيل الكنكشة وهذا هو أساس المعضلة الذي يمنع الكثير من مؤسساتنا من استيعاب هذا الكم الهائل من السودانيين المؤهلين بالخارج. ليست لدي أية معلومة مسبقة عن أسباب ودوافع هجرة المذيع الطيب عبد الماجد سواء أكانت عن رغبة أو مدفوعا إلى الخارج بواسطة (جيل الكنكشة) ولكن على كل فهذا المبدع يمثل إضاءة وإضافة حقيقية للحقل الإعلامي على وجه الخصوص ولنا كمهنيين عموما أن نفتخر ونعتز به رغم عدم سابق معرفتي به فهو يعتبر نبراسا يمكن الاهتداء به من قبل جيله والجيل الذي يليه في الحقل الإعلامي الذي يعج بالجيد وغير الجيد والطموح الذي يتوق إلى الجودة. تعاونه مع القنوات السودانية رغم وجوده بالإمارات فيه فرصة لتلاقح ونقل للخبرات المكتسبة بين المجموعتين الموجودة بالسودان والخارجية وهو يلقي ببعض الضوء على نهج فكري متقدم من جانبه ومحاولة لنقل تجاربه التي اكتسبها من خلال وجوده في وسط متقدم إعلاميا وتقنيا وهو دلالة أخرى على رقي وتطور فكري يتمتع به هذا المبدع وهو شيء نتمنى له أن يتواصل. المتتبع لبعض كتاباتي يلحظ أنني أولى أوجه القصور الإداري والتخطيط الإستراتيجي وشأن المال والتنمية الإقليمية الكثير من اهتمامي ونقدي الشديد بغرض الإصلاح والتقويم للمصلحة العامة ولكن ذلك الاهتمام المتعاظم بأمور الحياة لا يمكن أن يكون سببا في تجاهل مبدعي بلادي وخصوصا في المجال الفني الذي أتذوقه فقط ولا (أتفقه) فيه كثيرا، لكن تقدير الفن يدخل في صميم تطور الأمم ورقيها، وأمة لا تحترم وتقدر الفن فلن تكتمل صورة نهضتها وتظل مبتورة وباهتة ناقصة، وتكريم مبدعينا في كل المجالات هو أقل ما يمكن أن نقدمه في سعينا لتطوير ورقي وطننا. للطيب عبد الماجد ولكل (طيب عبد الماجد آخر) كل تقديرنا وفخرنا به وبأقرانه بلا حدود والله المستعان. سيف الدين عبد العزيز إبراهيم محلل اقتصادي بالولاياتالمتحدة [email protected] مدخل للخروج: يا مهد جنون العشق السابح في أكتاف الموج سحاباً يعتق نبض المطر ويأسر وجد الهمس دوي الرعد التائه في الآفاق.. من أين تراءى حسنك كل مساء في الأعماق.. من أين وكيف خرجت إلى البؤساء بنفس الشوق الحارق والأحداق.. لا ترمي وجه سماء الهم شهاب الحسرة رج القدرة والأشواق.. قطفتك الوردة وانتظرتك على بستان التوق تصافح نبض الشوق تذوب عناق..