هذه الرسالة «التاريخ» بقلم الأستاذ دفع الله أحمد الحاج، رأينا أن نتيح لها «نافذة الجمعة» التي تحتمل الاستطالة.. { يبدو لي أن قراءة مؤلفات الراحل المقيم البروفيسور عون الشريف قاسم رحمه الله قد نقلت إليَّ عدوى الاهتمام بشأن أنساب القبائل في السودان. وهو شأن ثقافي معرفي وعلم كلاسيكي. والبروفيسور عون بحر لا ساحل له كمرجع في هذا الشأن، وهو حاذق في التوثيق، ومن جهة أخرى لقد كان لمقال الأستاذ الصحافي «أبشر الماحي» في صحيفة «الأهرام اليوم» الغراء عن قبيلة العبابدة وإمارتها أثره العميق في نفسي لعدة أسباب ليس من بينها سبب قبلي إثني. فأنا من قرية من قرى محلية بربر نصف سكانها تقريباً من العبابدة والنصف الآخر من الأشراف/ الخفاب كما توجد بها مجموعات من أهلنا الرباطاب والأنقرياب، ومع مرور الزمن امتزجت الدماء والجينات بالتزاوج. وفي واقع الأمر أن العوامل والدوافع التي شجعتني لكتابة هذا المقال عديدة وليس من بينها عوامل قبلية وإنما هي أولاً الإلمام بقدر طيّب من المعرفة بقبيلة العبابدة وشجرة أنسابها، وثانياً بعد الاطلاع على وقائع الاجتماع الأول بالإمارة وما جاء فيها من أسماء الأشخاص الذين ينتمون للقبيلة وما قدّموا من خدمات جليلة للوطن، وثالثاً للرغبة في الإشارة لما بين الإدارة وإمارات القبيلة من وشائج. { حسب «شجرة الأنساب» فإن العبابدة أحفاد الصحابي الجليل الزبير بن العوام بن السيدة صفية عمة النبي «صلى الله عليه وسلم» وجدتهم أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين، أصولهم من بلدة (دراو) في محافظة أسوان بمصر. وعندما جاءوا إلى السودان استقر أغلبهم في مدينة بربر وفي أبي حمد، وآخرون استقروا في أرياف شندي وفي الدويم، والبعض في منطقة (السليم) بدنقلا. ولقد كانوا أكثر انجذاباً لمدينة بربر حيث وجدوا مجالاً في الوظائف الحكومية وفي مهنة تأمين القوافل التجارية التي كانت ترحل إلى المرافئ في البحر الأحمر إذ كان البعض منهم خُبراء وأدلاء وحُرّاس لتلك القوافل. ولقد كانت بربر مركزاً للإشعاع الحضاري وللمدينة وبها سوق (المخيرف) أشهر الأسواق في ذلك الزمان لتجارة الحرير والجوخ، ولصناعة السكر ومنها كانت ترحل القوافل التجارية إلى مرافئ البحر الأحمر قبل مد خط السكة الحديد من عطبرة. وفي العهد التركي تم تعيين زعيم قبيلة العبابدة (حسين باشا خليفة) مديراً لمديرية بربر/دنقلا (المدير السوداني الآخر هو أبو سن وقد تم تعيينه مديراً للخرطوم). ولقد أنجبت قبيلة العبابدة عدداً معتبراً من الشخصيات التي خدمت الوطن في مجالات مختلفة، ففي مجال التربية والتعليم المربي الجليل أحمد بشير العبادي ومن بعده أبناءه، ومن العسكريين الممتازين اللواء أحمد عبدالوهاب نائب الفريق عبود «وهو من دامر المجذوب» وكذلك اللواء محمد الباقر أحمد نائب الرئيس نميري من أبناء بربر، والفريق الفاتح عبدالمطلب «أمير الإمارة». وهنالك أيضاً في السياسة والاقتصاد آل غندور وعبدالرحيم حمدي وأحمد عبدالرحمن محمد أمين الصداقة الشعبية، وفي مجال الإبداع والفن نجد الشاعر الغنائي الشهير إبراهيم العبادي «وكان يدعو إلى القومية السودانية وقد جسَّد هذه المبادئ في مسرحية المك نمر»، وهنالك أيضاً الفنان التشكيلي البروفيسور مجذوب رباح عميد كلية الفنون السابق. ولا شك أن القائمة تحوي أسماء الكثيرين الذين خدموا الوطن في المجالات المختلفة. وقد أشاد شاعر بربر القومي الفحل «إبراهيم ود الفراش» بمشايخ وأفراد هذه القبيلة، فقال ذات يوم وكان عائداً من رحلة فوق جمله: بشوف بربر بشوف جوخا وحريرا بشوف الميضنة القبل الجزيرة بشوف بلد العبابدة البي خبيرا ومن المعروف أن مشايخ هذه القبيلة مثل «حاتم الطائي» في الكرم لا تنطفئ نيران بيوت الضيافة عندهم مثل الشيخ «حمد ود حسين» في بلدة «كنور» شمال مدينة عطبرة، ولهذا ظل الناس يتفاءلون خيراً عندما يشتعل «البرق العبادي» في السماء ويستبشرون بقدوم الغيث وهبوب الدعاش. ولكن ماذا يفعل خلفاء «حاتم الطائي» وبعضهم يعملون في الوظائف الحكومية والمرتبات الشهرية متواضعة ومع هذا الغلاء الطاحن؟ هل يستطيع الواحد منهم شراء (عمبلوك) من ولد الماعز ناهيك عن خروف لإكرام الضيف؟! إن الأمر يحتاج إلى علاج وإلى برامج اقتصادية. ولا شك أن الفقر من القضايا الأساسية بالبلاد. وفي واقع الأمر عندما يكون الحديث عن «الإمارة القبلية» تتوهّج الأفكار في ذهني وتسير مواكب التجارب الحياتية والذكريات وذلك لأن خدمتي الطويلة كضابط إداري جعلتني ألم إلماماً طيباً بتاريخ القبائل وحياتها وأنسابها وثقافاتها «الثقافة تساعد الإداري في عملية التكيُّف مع ظروف المجتمع الذي يعمل فيه» أيضاً هنالك زعماء «الإدارة الأهلية» من نُظَّار ومشايخ خط وعمد لتلك القبائل وما لهؤلاء الزعماء من صلاحيات في مجالات حفظ الأمن والقضاء ومعاونة المحليات في تنفيذ «الأوامر المحلية» وفي جمع الضرائب خصوصاً ضريبة الثروة الحيوانية التي نُسميها «ضريبة القطعان». في عهد الاستعمار كان يتم تحديد المكان والزمان لاجتماع أفراد القبيلة لتحصيل الضريبة وللاستماع لإرشادات الإداريين الإنجليز بشأن الأمن والترحال والمسارات وكان هذا الأسلوب الإداري يُسمى ب(الحكرة) وفي العهد الوطني ومع الحداثة تحوّل هذا الأسلوب إلى «مؤتمرات» من أجل الحوار ولبحث قضايا التنمية والخدمات وللصلح بين القبائل ولحل الصراعات بين المزارعين والرعاة، ولهذا الصراع اسم في الفلكلور هو الصراع بين (القرون والجرون) وبالطبع تحريك الإدارة الأهلية والمحليات لتحصيل الربط من الضريبة. وبما أن كل هذه النشاطات والاجراءات العملية تتم في إطار مؤسسات الحكم المحلي فإنه من الطبيعي تسليط الضوء على الحكم المحلي بصفته الأداة الإدارية المعنية بالتنمية والخدمات وبتمكين الجماهير من المشاركة في السلطة واتخاذ القرار إلى جانب رعاية شؤون الإمارات القبيلة (الحكم المحلي أداة تنفيذية/ تشريعية/ ديمقراطية) والإنجليز في بلادهم يسمون مجالس الحكم المحلي، باسم الديمقراطيات المحلية. فهي ليست مجرد «محليات» ولكنها «حكومات» للبلديات والمدن والأرياف، تمارس صلاحيتها بالتفويض الشعبي، وعضويتها تأتي بالانتخاب لا بالتعيين، والحكم المحلي هو القاعدة الأساسية للنظام الديمقراطي. ولقد جاء في التقرير الملكي الذي أعدته لجنة (اللورد مود) في إنجلترا عام 1969م جاء ما يلي: «عندما يدُبُّ الذبول إلى نظام الحكم المحلي تجف جذور الديمقراطية». أعود مرة أخرى إلى الإمارات القبيلة والإشارة للرابطة العضوية بين هذه الإمارات والمحليات، فلقد تأثرت المحليات كثيراً عندما قرر الرئيس الأسبق جعفر نميري رحمه الله حل الإدارة الأهلية، فلقد تراكمت متأخرات ضريبة القطعان وامتلأت الأرياف والبوادي بالطرائف لأن الضباط الإداريين لا يعرفون هويات الأفراد المطالبين بمتأخرات الضريبة إنما يعرف ذلك العمدة الذي غاب بأمر الرئيس «لقد كان ذلك هو العصر الذهبي للمتهربين من دفع الضريبة». الحاجة إلى تحديث الإماراتالقبلية: في اعتقادي أن الحاجة تدعو إلى تحويل هذه الإمارات إلى بؤر ومراكز للنشاطات الاقتصادية والخدمية والثقافية وذلك عن طريق تمكينها من إنشاء مشروعات وجمعيات تعاونية بمساعدة مصارف التنمية المتخصصة وعن طريق نظام «التمويل الأصغر». وبالطبع لن تكون هذه العملية خصماً على المحليات، فالمحليات لها وظائفها الديمقراطية والتشريعية والخدمية والإنمائية التي تحددها «أوامر التأسيس» وهكذا فإنه عندما يتم هذا التحديث في الهياكل والوظائف تصبح هذه الإماراتالقبلية مكرّسة للتقدم وللتنمية البشرية ومحاربة الفقر ولنشر الوعي والمعرفة والإذاعة النور والجمال بتفعيل ثقافتها وممارسة فنونها الفكلورية كما تصبح آلات «النحاس» بوقاً للسلام الاجتماعي لا للحرب وأخذ الثأر، بل لإشاعة الحب وتعزيز الوحدة الوطنية.. ختماً.. لا شك أن تحديث المؤسسات القبلية القديمة، أشبه ما يكون مجازاً كوضع (باخوس1) خمرته المعتقة القديمة في قوارير شفافة جديدة، ولسوف يُشكِّل هذا التحديث عندما يتم إنجازه مصدراً من مصادر الإشعاع الحضاري في مسيرة الحداثة. ٭ (باخوس): هو إله الخمر عند اليونان القدماء.