{ مصر في عهد حسني مبارك غابت عن الساحة الأفريقية وركزت كل جهدها الدبلوماسي على تقوية علاقتها بالولايات المتحدةالأمريكية في ما يعرف بسياسة المصالح المتبادلة، التي تقوم على أن تلعب مصر أدواراً على صعيديها العربي والإسلامي مقابل الدعم الأمريكي المالي والعسكري واللوجستي بالقدر الذي يظهر نفوذها كدولة كبيرة ومهمة في الشرق الأوسط، وعلى هذه الشكلية كانت مصر مبارك تراهن وتعزز مكانتها وسط شعبها وترسلها إماءة خفية إلى الحكومات العربية بأنها الكبيرة. { صحيح أن مصر دولة كبيرة ومهمة ولكن الاعتماد على ذلك وحده أضعف مستقبل مصر الذي نحن الآن بين يديه، وها هي مصر تخسر دولاً لها وزنها وتأثيرها المباشر على مصر نفسها، وأقصد هنا تحديداً دول حوض النيل التي باتت أقرب إلى مصالحها وإلى إسرائيل منها إلى مصر، وهذه الدول تمضي في مشروعها لفرض واقع جديد يتم بموجبه تعديل اتفاقية تقسيم مياه النيل، حيث وقعت ست دول من ثمانِي ولم يتبقَ بجانب مصر غير السودان الذي يؤسس مواقفه من مصر على قاعدة إستراتيجية يعرف تماماً مطلوباتها عكس ما كان ينخرط فيه نظام مبارك وهو يسعى بكل ما يملك من طاقة وجهد لإضعاف السودان، وكان عليه تدعيم أي نظام حكم يقوم في السودان خدمة لمصالحه وإستراتيجياته لأن ما بينه والسودان أكبر من أي نظام حكم في السودان أو في مصر، ولو فعلت مصر ذلك لتبدل الحال تماماً ولما استطاعت الحركة الشعبية الوصول إلى مبتغاها وفصل جزء عزيز من وادي النيل وقيام دولة جديدة هي الآن تقدم ورقة تطرح فيها أفكارها وتطالب بحقوقها، وهي بالتأكيد ستفرض واقعا جديداً يدعم توجهات دول الحوض ومطلبها بإعادة تقسيم أنصبة مياه النيل، ومن المؤكد أن الدولة الجديدة ستنضم إلى لاتفاقية كمبالا، وإن كان السودان يتعامل مع مصر مبارك بنفس سياستها لسارع أو قاد دول الحوض إلى ما هي عليه الآن ولفرض رفضاً قاطعاً مقترح مصر بأن يتحمل السودان نصيب الدولة الجديدة باعتبارها كانت جزءاً منه لاسيما وأن هذه الدول ساندت السودان في الوقت الذي كانت مصر مبارك تناصبه العداء وتضعفه. { و ذات الخطأ الإستراتيجي الذي ارتكبته مصر مع السودان بموقفها من قضية جنوب السودان ها هي تكرره في دارفور بمواقف محايدة وأحياناً متحاملة على السودان، وهي تفتح مكاتب لحركات دارفور دون أن تضغط عليها للوصول إلى سلام، وحتى موقفها من المحكمة الجنائية لم يكن بالقدر الذي تفرضه أزلية وإستراتيجية العلاقة بين السودان ومصر، كما أنها كانت تتحفظ على المبادرة القطرية لحل الأزمة في دارفور وهي بذلك تتجاهل أن استقرار السودان أكبر من صراعها على النفوذ في الإقليم، وهي في ذات الوقت لا تتحرك بفاعلية لإحلال السلام في دارفور ولا تريد الآخرين أن يتحركوا. { نعود إلى مصر وهي وبسبب تلك الشكلية شكلية النفوذ والدولة الكبيرة تتعامل مع الدول الأفريقية على نحو من التعالي وعدم الاحترام والتقدير لها، وهي تعتمد على علاقتها بأمريكا لحسم أي توجهات أفريقية تمس بمصالح مصر، وربما تحصلت على وعد بذلك من أمريكا ووقعت في الفخ بتجاهلها للقارة السمراء فانسحبت منها وتركتها لغيرها ولإسرائيل تحديداً التي تضيّق عليها الخناق الآن، وبدأت دول الحوض تتحسب لمصالحها بعيداً عن قوة التأثير المصرية «النائمة في العسل الأمريكي»، لاسيما وأن نظام مبارك قد عمّق هذا الإحساس لدي الشعب المصري وظل يخدرهم بأن مصر قادرة وأن مصر كبيرة حتى سرى هذا الإحساس لعامة الشعب المصري وصار ينظر إلى كل أفريقي بمن فيهم نحن السودانيين باحتقار ودونية وعدم احترام، ولذلك تجد مصر الرياضية لا تستجيب للمنافسات الأفريقية وتنظر إليها باعتبارها أقل قامة من كبريائها، وعندما فطنت لذلك مؤخراً أقامت منافسة في ديارها لدول حوض النيل لم تكن إلا محاولة مباشرة للاقتراب من هذه الدول لأنها جاءت في ظل اتساع الشقة بين مصر وهذه الدول وعقب توقيع اتفاقية كمبالا فكان حرياً بمصر المشاركة في كافة الفعاليات الأفريقية بما فيها سيكافا التي اعتذر عنها النادي الأهلي إن كان ذلك صحيحاً وما أخشاه إنه لم يكلف نفسه حتى بالاعتذار، وكذلك غابت كل الفرق المصرية مثلما ظل الرئيس مبارك يغيب عن كافة القمم الأفريقية منذ محاولة اغتياله في أديس أبابا في العام 1995م. { على مصر الثورة أن تصحح هذا الوضع الخطير وتتجه نحو مصالحها بنفسها وأن تزيد من حراكها السياسي والدبلوماسي والثقافي والرياضي داخل القارة السمراء، وأن تولي التنسيق مع السودان أولوية قصوى وتتبنى معه إستراتيجية مشتركة.