خطى الجنوب في تراب الشمال ما تزال في الرمل كنقش أو رقش في إبريق قهوة «تركي».. أصابع القدم راسخة في جلد الرمل تماماً كبصمة رسمتها أقلام فرق «الاستدلالات الجنائية».. ورائحة العرق تفوح من جدران الوزارات التي ارتفع فيها الصوت غضباً من قرار، وهتافاً يصفق لقرار. طوال حقب من الزمان.. كان الوزراء من أبناء الجنوب يشكلون التوابل المطلوبة لوجبة السلطة في الجهاز التنفيذي أو الرئاسي أو البرلماني.. بل كان تمثيل الجنوب في أي مستوى يشكل بيضة القبان في ميزان التشكيل الوزاري ائتلافاً أو انفراد حزب أغلبية أو حكومة قومية أو حكومة شمولية، نتاج انقلاب عسكري أو ثورة كما يسميها أصحابها. وكما كان تمثيل الجنوب مهماً بتلك الكيفية عدداً، فإن الوزارات التي تسند لأولئك النفر تمثل أيضاً، بل وتحتاج أيضاً لحوار أشبه بإرساء عطاء في شأن يكثر فيه أهل الطلب والمنافسة، ولهذا وعبر مسيرة السنين تقلب الوزراء الجنوبيون بين الوزارات، فشغلوا ما يزيد على (29) وزارة.. بدأ الأمر بوزير دولة بلا أعباء، ثم المخازن والمهمات، والثروة الحيوانية، النقل الميكانيكي، الأشغال، الثروة المعدنية، الداخلية، النقل، المواصلات، الري والقوى الكهربائية، التعاون والعمل، الصناعة والتعدين، التموين والإسكان، وزير دولة لشؤون الجنوب، الحكومات المحلية، التخطيط، الثقافة والإعلام، الخارجية، الزراعة والموارد الطبيعية، الشباب والرياضة، المجلس الأعلى للجنوب، الإغاثة وشؤون النازحين، الإرشاد والتوجيه، السلام وإعادة التعمير، التعاون الدولي، الصحة، المساحة والتنمية العمرانية، الطيران، المالية والاقتصاد الوطني، البترول. وتقلب في شغل هذه الوزارات عدد كبير من أبناء الجنوب بكافة قبائلهم أو محافظاتهم، أو إقليمهم، غير أن إحصاء أولئك بالاسم فقط يوقع المحصي في خطأ فادح، ذلك أن الوزير الواحد قد يكون قد عين وزيراً عدة مرات، إما في نفس الوزارة بعدد التعديلات الوزارية التي وقعت، وإما تم تحويله وتعيينه في وزارة أخرى.. ولنعطي مثالاً لهذا فإننا نجد مثلاً: سانتينو دينق تم تعيينه (5) مرات ولمدة (8) سنوات وزيراً للثروة الحيوانية. السيد أبيل ألير (8) مرات شغل فيها وزيراً للأشغال، ومرتين لشؤون الجنوب والتموين والإسكان، إلى جانب أنه شغل أيضاً منصب نائب رئيس الجمهورية. جوزيف قرنق (6) مرات في وزارة الجنوب.. بونا ملوال (5) مرات لمدة (7) سنوات في الثقافة والإعلام. وهكذا فقد يحجب تمثيل الجنوب شخص واحد أو اثنان لعقد من الزمان أو ينقص قليلاً. لهذا وكما بدأنا هذه الصفحة بخطى أبناء الجنوب في تراب السلطة، وأرض الشمال (الخرطوم) مقر السلطة المركزية، فإننا نجد أن آثار هذه الأقدام في مسيرة الوطن التي لم تنقطع حتى 9 يوليو 2011م، ما شفعت مطلقاً في أن تغير في نتيجة الاستفتاء لتحظى الوحدة بنسبة (3%) من جملة المقترعين!! وهو الأمر الذي أدهش حضور أهل الصحافة الذين غيبهم الموت عند سماع نتيجة الاستفتاء، كما كشفت الصفحة السابقة. ولهذا كان ضرورياً أن يتم انعقاد اجتماع لأولئك الوزراء في حضور رؤساء تلك الوزارات، وقد تم هذا الاجتماع في (قَرّي) عاصمة دولة المقرة، وكان أول الحضور السيد إسماعيل الأزهري الذي رأس (4) حكومات وطنية، وجاء معه من أبناء الجنوب.. داك دي وسانتينو دينق واستاسلاوس عبد الله بياساما. ثم السيد عبد الله خليل الذي رأس الحكومة الرابعة والخامسة، وحضر معه من الوزراء الجنوبيين بنجامين لوكي والفرد برجوك الدو وغردون أيوم وفردنالد أوينق. ثم حضر الاجتماع الفريق إبراهيم عبود، وحضر معه بوث ديو، علماً أن سانتينو دينق أيضاً كان وزيراً معه. ثم حضر السيد محمد أحمد محجوب، وحضر معه أندرو وول والفرد وول، وجيرفس ياك وأروب يور أبيك. ثم حضر المشير جعفر محمد نميري ومعه ثلة من الوزراء الجنوبيين الذي تتالوا في التعديلات الوزارية التي وصلت ل (18) تعديلاً طوال ستة عشر عاماً وحضر معه، (جوزيف قرنق، أبيل ألير، لوجي أدوك، لورنس وول، صموئيل لوباي، أتون داك، فرانسيس دينق، صمويل أرو بول، أوليفر ساتالي البينو). ثم حضر السيد الصادق المهدي وحضر معه من الوزراء الجنوبيين: (جشو أدي وال، والتركوني أجوك، لورنس مودي تومبي، رتشارد ماكوي، ألدو أجو، روبرت باندي، أنجلو بيدا). ثم حضر المشير عمر حسن البشير وحضر معه من الوزراء من الجنوب: (ناتالي بانكر أسيو، بيتر وارات إدور، عبد الله دينق نيال، الأب كنقا جورج، لواء دومنيك كاسيانو، المطران قبريال روريج، ساينا إبراهيم جامبو، اللواء قلواك دينق، اللواء شرطة جورج كنقور، جوزيف ملوال، د. لام أكول أجاوين، أقنس لوكودو، جوزيف لاقو، رياك مشار، د. رياك قاي، جوزيف لاسو، مابور ماكوني، منقو أجاك، مكواج تنج، مارتن ملوال أروب، شول دينق، وعلي تميم فرتاك. ولم يحضر وزراء الحركة الشعبية!!). الأحياء منهم جلسوا في الجزء الشمالي من «الصيوان» والأموات الذين لم يشهدوا الاستفتاء جلسوا يميناً. على المنصة الجانبية جلس السادة: (بوث ديو، سانتينو دينق، بنجامين لوكي، واستسلاوس عبد الله ييساما). على المنصة الرئيسية جلس السادة رؤساء الوزارات بالأقدمية التاريخية، غير أن الأحياء منهم: (السيد الصادق المهدي والمشير عمر البشير، جلسا وحدهما في منضدة ملتصقة بالمنصة الرئيسية، ولكن بينهما حاجز صغير لكيلا يختلط الحي، بمن هم في القبور. قرأ القرآن منقو أجاك. وبدأ الحديث سانتينو دينق وتساءل: «في خبر أنا ما متأكد بيقول الجنوب اختار الانفصال.. دا صاح.. إذا صاح.. أشان شنو»؟.. سرت في الاجتماع همهمة فصيحة بعربي جوبا. قطع الهمهمات صوت الصادق المهدي وقال: «تم الانفصال بنسبة 98% وأصبح الشمال بلا....».. الموتى لا يعرفون الانفعال.. هم عرفوا حياة البرزخ.. لا لغواً ولا جدال.. وإنما نظر يحدق في يوم آت.. لكن العيون تتحدث أحياناً نيابة عن اللسان.. هطل مطر!!! وتساءل منقو أجاك: «أين البذرة التي غرسنا في أرض الشمال، وتلك التي استغلظت ساقاً وثمرة وظلاً.. أي فأس تلك التي غاصت في قلب الغابة فأحرقت غابات الزان والمهوقني والأبنوس، وأجفلت الجواميس لتلتحق بسفاري كينيا، وتصبح طعاماً لجيش الرب»!!. نهض بوث ديو.. وسأل الأزهري سؤالاً خرج من فمه لأذن الأزهري.. ونهض بنجامين لوكي.. وسأل عبد الله خليل.. ونهض بوث ديو.. وسأل الفريق عبود.. ونهض كلمنت أمبورو.. وسأل سر الختم الخليفة. ونهض جيرفس ياك.. وسأل محمد أحمد محجوب ونهض جوزيف قرنق.. وسأل المشير جعفر نميري.. ونهض أنجلو بيدا.. وسأل السيد الصادق.. ونهض نتالي بانكر.. ولم يسأل المشير عمر البشير.. وقال في أذن علي تميم فرتاك حديثاً.. صاح تميم: «لا... أنا...». لم نسمع تلك الأسئلة وكذلك الإجابات. فهل تمحو الأيام آثار تلك الأقدام.. «ما تزال في الرمل كنقش جلي أو رقش في إبريق قهوة فضي من بقايا.. الأتراك».