لم تقف المعطيات الجيوسياسية هذه المرة في وجه الشعب الليبي الذي عانى كثيرا من ويلات الحكم الفردي التمامي حتى استوفى النظام العربي أجله وبعث الله الملايين من عباده على غفلة من الدولة ومن جميع المراصد عاصفة بكل المسلمات العربية وعابثة بالمبرمج وراء البحار والمقرر في ظلمات الليالي وما فضح النهار... قعد بي العقل والوجدان والروح والعلم والخبرة والمهنية واللهاث وراء الشاردة والواردة، قعد بي كل ذلك على فهم حادثة مألوفة كالخبز العربي الذي يصفع آكله من المهد إلى اللحد، فما معنى أن تحرك صفعة فحريق في قرية فلاحية فيغضب ثلاثة ملايين إنسيا لتلد ساحات التحرير مشاهد من الشرف والبطولة الشعبية بقيادة الأطفال والسجد والركع والمرأة العربية؟ كذب العقل: لا إله إلا من قال: (فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ...). استحال التغيير السلمي المباشر على الشعب الليبي بعدما ذاق حلاوة الحرية بلسان جاريه الغربي والشرقي، وزاد من ظمئه إلى كأس الحياة، طيبة الشعب الليبي النادرة واستعداده للعطاء، إذ لكل أجل كتاب. بنغازي البعيدة أدركت قبل غيرها أن الزعيم الليبي شخصية سياسية خارجة عن المألوف في عالم السياسة، تذكر المرء بأكبر الثوريين دموية، ولم تمض غير أيام قليلة حتى جوبه الشباب الليبي الثائر بلسان خشبي مبين معلنا حملة تطهير عرقي: زنقة زنقة حفرة حفرة على الأهل والأحباب، ليكتشف الليبيون أن عميد الحكام العرب لا يرى ما يمنع في هدم البيت الليبي وتحويل ليبيا برمتها إلى روما محترقة بأيدي نيرون عربي ظالع في الإسلام (الرئيس العربي الوحيد الذي يحفظ كتاب الله) ظالع في العروبة، ظالع في القومية، ظالع في الأفريقية، ظالع في الحكم وظالع في السن. في غياب التوازن العربي - الأوروبي وفي غياب الجيش المصري والجيش التونسي وانشغال السعودية بالشأن اليمني والبحريني، ولأن العقيد لم يكن بإمكانه تجاوز العقيد، ولأن الدولة هي العقيد والجيش والشرطة كلها بيد العقيد حتى كهرباء العاصمة وأوكسيجينها بيد العقيد، لم يجد الشعب الليبي الثائر من مجير ولا من خيار سوى المواجهة، وهي خيار ماحق لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، فوجدوا في الصليبيين رحمة وحلما وأطماعا مشروعة منعت بحمد الله وفضله رؤية بنغازي تتحول إلى اسم بعد رسم. قبل المواطن الليبي المدفون في المقابر الثورية العربية الشعبية الليبية اليد الممدودة لإنقاذه على مضض، فالليبيون ما زالوا على الفطرة ولم تتربع الحداثة المريضة على قلوبهم بعد، وما زال الإسلام يعمر قلوب أهله.. قبل الليبي بمساعدة النيتو لحفظ الحياة، وهو موقف صعب يعرف تماما تبعاته ويوم يجمع الله شمل الأسرة الليبية وتؤسس دولتها المعاصرة ويكون لها جيش وطني وأمن يسهر على تطبيق القانون وأحزاب لم تستنبت في المكاتب المكيفة، وبرلمان من ذات الناب ورئيس مدى الأيام المعدودة دستورا وانتخابا لن يعجزه تحديد ولاءاته واختيار تحالفاته وتسديد فواتير من أعانه ولو بجابري عربي وحيد لا يُنسى عبر الاتجار وتبادل المنافع، وتحول ليبيا إلى دولة تسالم الجميع ويحترمها الجميع.. إن الحكم والمثالية وكثرة الجدل وإصدار الأحكام على من يكتب تاريخا جديدا لليبيا الشقيقة بدمه ويمنع أمه وأخاه وزوجه من الاغتصاب والتصفية الجسدية بضاعة المتفرج بعد أن نكبت عروبته في عراقه، فللثائر دافعه الأنبل ولعشاق الوطن الكبير أضعف الإيمان. لم يعد التسامح والتعددية حكرا على الديمقراطيات الغربية، إلا أن الجار العربي الذي عبرت هذه البضاعة سماواته السبع ولم يسمح لها بالهبوط أرضا ما يزال متحرقا لهذه العملة الأصعب حتى وإن غرق العرب في دماء شبابهم، وما يزال يسار الدولة ويمينها يجادل موسى في لون الإسلام الذي يريده كمبارسا هينا لينا لو أقسم عليه “قهواجي” وزير الداخلية لأبره، فالذين يُثبطون عزائم الثوار الليبيين ويرون أن دخنا صليبيا في ثورته يعرفون جيدا أن الغرب يتدخل في الشأن العربي منذ قرنين وليس منذ قيام الثورة الليبية، ولم يكن تدخله دائما أبدا استعماريا أو مصلحيا أو من أجل نفسه فقط، فأين البترول في البوسنة، وهذه عجوز الاستعمار السيدة تاتشر تقول بعد أن عاينت أوضاع المسلمين أمام مجلس العموم البريطاني: “إننا نشعر بالخزي من تخاذل الغرب عموما وأوروبا وبلدها وحزبها وخليفتها في الحكم”. أما زعيم العمال وأكبر شخصية عرفتها بريطانيا منذ الكونية الثانية فقد جيش الزعيم العمالي رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير الشعب البريطاني بعد فوزه بالانتخابات عام 1997، وكان أنجب الرؤساء في الغرب وأسرعهم إلى شل القوات الصربية وتحييدها قسرا حتى لا يتم استئصال المسلمين وأنجاهم الله ثم الطيار الصليبي البريطاني والغربي، وها هو الوزير الأول الصربي يخطب ود إخوانه في كوسوفو الحرة من أجل التعاون والتعايش السلمي، فهل يموت أبناء الشعب الليبي من أجل تحرير بلادهم أم من أجل تقديمها للاستعمار، ومن دولة الجزيرة والجابري والأردن وتركيا ووو، فكم من سنتمتر من رمل ستأخذ كل دولة؟ ليس القصد من رأيي تسفيه عقل الآخر الذي يبدي محقا تخوفا من أن يكون مصير القطر الليبي مشابها للكارثة العراقية، ولكن وراء مخاوفي ميلاد ذهنية عربية مرهفة بعد الثورات العربية ترى في الغرب عدوا متربصا خالصا لا تحركه إلا غرائزه الاستعمارية ومطامعه، فمصالح شعوب المتوسط والارتباط العضوي لدوله والامتزاج الديمغرافي وحتى الأسري لمتساكنيه تجعل من الأيديولوجية الاستعمارية أثرا دراسا وراءنا وليس امكانية متربصة أمامنا. قبل اندلاع الثورة الليبية كانت علاقة الجزائر بالنظام الليبي تتميز بخصوصية ملفتة دفعت بها الحرب الأهلية إلى متاهة العاطفة العربية المستعرة مضمونها أن الزعيم الليبي لم يتوان عن مد الحكومة الجزائرية بما يساعدها على إلحاق الهزيمة بالإسلاميين، وبما أن الوفاء عربي أو لا يكون فقد دفع الشعب الليبي الذي تمرد على حكم الفرد فاتورة هذه الخصوصية، فأما الشعب الجزائري فقد عصمته المعاناة والإخوة من الانحياز إلى الكتائب والمرتزقة شاركه في موقفه الطبيعي الرئيس الجزائري العجوز المحنك وأما الدولة فانحازت إلى الزعيم الليبي، إذ لم يستطع جنرالات الجيش نسيان إحسان الجار زمن الحرب الأهلية.. أما وقد حصحص الحق فقد بات لزاما على الدولة الجزائرية دون شعبها أن تدرك أن الشعب الليبي أحق بالمرحمة من الحكومة هناك، خاصة بعد الخسائر البشرية وخراب مدن بأكملها، وأقل ما ينتظر من بلد عربي بحجم الجزائر وبعروبة الجزائر وبإسلام الجزائر أن تسارع إلى زرع بذور المصالحة في ليبيا بعد استقالة الزعيم الليبي وأن لا تدخر الحكومة الجزائرية أي جهد في شرح موقفها إلى أشقائها الليبيين حتى لا يعلق بالقلوب والأرواح ما من شأنه أن يزكي القطيعة ويقطع الأرحام. كاتب وإعلامي تونسي مقيم في بريطانيا