لم تعد تلك الأصوات التي تشهر لافتة التغيير والإحلال في المؤتمر الوطني حبيسة الدواخل، وأسيرة ذلك الوصف الذي أنتجته الانتخابات الأخيرة: (المتفلتون).. فالمشهد الذي يقف على ناصيته اليوم أكثر من وطن أبرز عدداً من الوجوه تبشر بجملة من المعالجات الجذرية التي ستحدث انقلاباً سياسياً داخل الحزب الحاكم، قد يتعدى مرحلة الحلف الاحتكاري الذي توطنت له مقاليد الأمور لسنوات في ما يختص باقتسام الثروة والسلطة.. بل واقتسام الشعب نفسه من وجهة نظر البعض! ومما لا شك فيه أن أسطورة الحزب الحاكم التي تضخمت على طريقة الخرافات الكبرى؛ قد تجد نفسها اليوم عارية في مواجهة حقائق المرحلة الحرجة، الذي سيتهاوى والذي سيتقوى بالشعب، والذي سيصمت إلى الأبد!! الرئيس سيغادر القصر الجمهوري لا محالة بنهاية الفترة الانتخابية، وهو ما ظل يعبر عنه طوال الفترة الماضية، كما صرح في أكثر من مناسبة عن زهده في البقاء، ولكن بعض من رهان الساعة هو ما عبر عنه الدكتور غازي صلاح الدين عندما سُئل قبل أيام في برنامج تلفزيوني: «لماذا ترفضون منح حركات دارفور منصب نائب الرئيس»؟ حيث لم يجد مستشار رئيس الجمهورية حرجاً في الرد وهو يواري تحفظه بين الضلوع ويطلق عباراته الداوية: «أصدقك القول إن المنافسة على الرئيس نفسه مفتوحة للجميع، فلماذا الإصرار على نائب رئيس»؟! هو إعلان يعني بالضرورة أنه لم يعد ثمة سقف للمطالب، قبل الانتخابات الرئاسية أو بعدها ولكنه في ذات السياق يعني أن خلافة البشير في القصر الجمهوري دخلت مرحلة التساؤلات بعد أن تجاوزت نفق خيانة الثورة والقضية. نوفمبر شهر المفاجآت: ثمة استفهامات تضج بحرارة بخصوص رئيس المؤتمر الوطني القادم في حالة نزع البشير جلبابه الحزبي وارتدى العباءة القومية باعتباره رئيساً لكل أهل السودان، هل ستكون الأشياء هى الأشياء نفسها، وما هو مصير بعض الوجوه التي ظلت تتنقل بين دورة وأخرى حتى ظن الناس أنهم ورثوا الدولة من يد من أوجد الوطن من عدم. أمين التعبئة السياسية بالمؤتمر الوطني وزير الشباب والرياضة؛ حاج ماجد سوار، يرسم ملامح المرحلة القادمة بأكثر من ريشة ويقول ل(الأهرام اليوم): هنالك ملامح أساسية وضعت كإطار عام تتحدث صراحة عن التوجه نحو تأمين دستور دائم للبلاد يقوم على الحريات والديمقراطية بآلياتها ويرتكز على الشريعة الإسلامية في المقام الأول والنظام اللامركزي، وقد تحددت كيفية لإجازة هذا الدستور بالحوار مع القوى السياسية ومراكز البحوث ومنظمات المجتمع المدني، وبعد إجازته يطرح في استفتاء عام على الشعب السوداني، بالإضافة إلى التوافق مع القوى السياسية بطرح فكرة الحكومة العريضة وإشراك أكبر عدد من الناس وذلك تدشيناً لدورة جديدة في الحياة لا بد أن تنطلق. ماجد كذلك يشير إلى أن المشاورات حول الحكومة الجديدة ليست مفتوحة وإنما مرتبطة بانفتاح الحوار حول فترة زمنية لا تتعدى الأسابيع القليلة، وإذا لم نتوصل مع القوى السياسية إلى صيغة محددة للمشاركة سوف تشكل الحكومة وبعد ذلك يستمر الحوار والتوافق، وفي ما يتعلق بالتنازلات التي طرحها المؤتمر الوطني مع تلك القوى يقول حاج ماجد إن حزبهم رغم أنه حصل على الأغلبية في الانتخابات وحصد غالب الدوائر بموجب برنامج انتخابي إلا أنه على استعداد لمراجعة ذلك البرنامج والتوصل إلى برنامج جديد يلائم المرحلة، فضلاً عن التنازل من بعض المواقع التنفيذية على مستوى المركز والولايات، والحرص على إشراك القوى السياسية في كتابة الدستور المقترح والدائم، ويمضي ماجد إلى أنه من الأشياء المتفق عليها في ما يتعلق بالحكومة القادمة تخفيض عدد الحقائب الوزارية بما لا يقل عن (%40)، على أن تتوفر في عناصرها الكفاءة المطلوبة والقدرة على العمل والإنجاز وغالبهم من الشباب، وقال إنه سيتم اختيارهم وفق معايير الحزب، وبخصوص الرجل الذي سيشغل منصب رئيس الحزب في المرحلة القادمة يقول حاج ماجد إن هذا الأمر كفيلة بحسمه المؤسسات الداخلية في حينه ويستدرك قائلاً: ولكن واحدة من المشاكل أن (الوطني) فيه عدد كبير من الكوادر المقتدرة وهو لن يعجز عن الدفع بها وإقناع الرأي العام. حاج ماجد استبعد الدفع بخليفة للرئيس البشير من خارج مؤسسة الحزب، ويقول إن المؤتمر الوطني هو حزب سياسي لديه برنامج يريد أن يطبقه ولا يحدث ذلك إلا عبر شخص ملتزم ببرنامج الحزب ومن داخل المؤسسة، وتعليقاً على تكرار الوجوه يشدد سوار أنه ليس بدعة أن يستمر شخص في موقعه عدة دورات سيما وأن المواقع في الغالب تحتاج إلى التجربة والخبرة، ويقطع جازماً بأنه ليس هنالك تسابق أو تنافس بين دكتور نافع وغازي والأستاذ علي عثمان لرئاسة الحزب أو التحضير لمسألة الإحلال، وذلك لأن المؤتمر العام الذي سيعقد في نوفمبر وهو مؤتمر تنشيطي ليس متاحاً فيه اختيار أجهزة جديدة إلا إذا قرر المؤتمر ذلك، ويؤكد ماجد أنه لا يوجد ثمة صراع بين قيادات الحزب على المنصب باعتبار أنهم يمسكون بمقاليد الأمور ويضيف: «فقط توجد بعض الأصوات في القواعد تزكي فلاناً وعلاناً وهذا لا يرقى لمستوى الصراع». ويخلص أمين التعبئة السياسية إلى أن غالب قادة الحزب زاهدين في المواصلة، ولكن واحدة من الأسباب الأساسية التي جعلت الحزب يتمسك بهم هو الفارق الكبير في الخبرة، بالإضافة إلى أنه لم يكن هناك ترابط بين القيادة والقواعد حتى يميزوا بين الناس وهو ربما يكون شكل التنازع الذي اقتضته المسؤولية العامة. صراع أجيال: مصدر مسؤول - فضل حجب اسمه -قال ل (الأهرام اليوم) إن توجيهاً صدر لعدد من عضوية الحزب الحاكم بالبحث عن مواقع بديلة غير العمل التنظيمي والسياسي المباشر وإفساح المجال للآخرين، وقد اختار عدد من الوزراء الذهاب إلى قاعات التدريس في جامعة أفريقيا وجامعة الخرطوم. وقال إن الشاب المقصود الذي سيخلف الرئيس البشير بحسب ما رشح من معلومات ربما يكون هو الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل ولكنه أمر سابق لأوانه. ويمضي المصدر بالقول: إن طبيعة الحوار التي تدور داخل المؤتمر الوطني تتمثل في كيفية الدفع بوجوه جديدة لم يألفها الناس من قبل، إلا أن هنالك تياراً داخل الحزب يعمل على إجهاض تلك الرؤية بالحديث عن فشل الشباب في المرحلة السابقة في تقديم ما يطمئن بأنهم مؤهلين لإدارة الدولة، مما يعني بأن هنالك صراع أجيال واقع، واستطرد القيادي بالحزب بأن الرؤية العامة لديهم تتحدث عن ضرورة الانفتاح بشكل جاد هذه المرة على القوى السياسية وتقديم المزيد من التنازلات حفاظاً على ما تبقى من السودان، ومضى إلى أنه بنهاية هذا الشهر سوف تعلن قررات كبيرة، وقال إن هنالك محاولة لفرض ذات الوجوه القديمة ولكنها ستواجه برفض موسع، وأشار إلى أنه بعد الدمج سيختفي منصب وزير الدولة في عدد من الوزارات في إطار سياسة التقليص، عدا الوزارات الكبيرة المدمجة في بعض، وختم حديثه بأن هناك فراغاً دستورياً سيتم التعامل معه بشكل سريع، وفي ما يخص الوجه الذي يحظى بالدعم لتسنم موقع قائد الحزب في المرحلة القادمة قال المصدر إن هنالك شبه إجماع بالدفع بالأستاذ علي عثمان لقيادة الحزب حتى تتضح الرؤية. غازي.. اتساع قاعدة التغيير: مساعد رئيس الجمهورية؛ الدكتور نافع علي نافع، نفى أي خلاف بينه ونائب الرئيس. وقال إن علي عثمان أكثر منه خبرة ودراية، وهو يدفع بذات الفكرة إذا صح منه العزم، غير أن الدكتور غازي صلاح الدين يعتقد أن رؤية التغيير لديها قاعدة تتسع كل يوم داخل الحزب، ويضيف أن هنالك محافظين يرون أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، ولكن التيار الغالب ينزع نحو الإصلاح، وزاد بأن التجديد مطلوب، وحتى النظام البرلماني المختلط يعتبر أطروحة لا عيب فيها، ومضى أكثر من ذلك بالقول إن التصريحات التي صدرت من الرئيس بأنه لا يفكر في الترشح مرة أخرى، كانت طواعية وهو موقف من أهم شخص في النظام، وأضاف غازي: «لا بأس من صراع تيارات داخل الحزب إذا كانت مسنودة برؤية»، وزاد بأن الحديث عن مرشح شاب هو ليس بالضرورة ما رسخ في الأذهان، فالرئيس لن يورث خلفه وإنما المهم أن تكون هنالك آليات لفرز القيادات، وفي ما يتعلق بإعداد خليفة للبشير قال غازي إن الذين تدربوا في فترة الإنقاذ كانت مجالات تدريبهم محصورة في مساحات معينة وهذا جانب لا بد من النظر إليه وسده بخلاف الذين تربوا في عهود سابقة للإنقاذ، وأضاف بأنه ليس من الذين يقولون إنه لا يوجد بديل في ما يتعلق بمسألة الإحلال، وبالتالي فإن أي لحظة تاريخية تفرز قياداتها ولا داعي للقلق، سواء جاء شاب عمره (25) عاماً أو جاء كهل عمره (50) عاماً إذا كان يحمل رؤية للتغيير وبالضرورة هذا ما سيحدث، وإذا تمسكنا بمقولة إنه لم تلد النساء قائداً غير البشير سيموت الناس جميعهم. أكثر من لافتة: إفادات غازي تحفل بالعديد من الرسائل والدلالات، فالمشهد ينم عن حراك غير محدود، وحديث بات يبشر بوجوه سوف تعلن عن نفسه قريباً ليتخير الناس القوي الأمين، وثمة سباق يظل حتمياً بين عدد من القيادات في ملعب الجمهورية الثانية، سباق ربما لا يخضع لقوانين الدائرة المغلقة وإن كان هنالك تيار يؤيد استمرار الأوضاع على ما هي عليه. الكثير من الناس يرى بأن قوش كان يعد نفسه للفوز بذلك السباق قبل أن يحترق ويأفل نجمه، وتبقت في الساحة وجوه ربما لا يتخطاها الاختيار، أما حاج ماجد فقد نفى أن يكون طامحاً إلى أي دور مماثل في المرحلة القادمة، وأن كان هنالك من يرى أن الإنقاذ تبحث عن بطل جديد سيخرج من بين أقبية السكون ألمح إليه الرئيس البشير في حواره مع صحيفة (الشرق الأوسط)، عندما قال أن الحزب لديه من الشباب ما يصلح لرئاسة الجمهورية، فهل ذلك الشاب المثقف صاحب القدرات الخرافية سيطول انتظاره؟ وماذا عن المؤتمر الوطني بوصفه: (حزب قائد لوطن رائد) بعد أن أصبح الوطن وطنين؟ هل هو ينتمي للمؤتمر الوطني أم ينتمي للمؤسسة العسكرية التي جاء منها الرئيس البشير وظل وفياً لها طوال تلك السنوات؟ هل ما ظهر من جبل الجليد كفيل بإغراق أسطورة الحزب الحاكم؟ هل سيخلي عدد من قادة الدولة والحزب مباني المؤتمر الوطني ويعودون إلى قاعات التدريس مجبرين لا أبطال، ما هو مصير المؤتمر الوطني نفسه في حالة فك الالتصاق بينه والحكومة؟ كلها أسئلة يبقى عنصر الزمن هو وحده المتكفل بالرد عليها.