محمد وداعة: الجنجويدي التشادى .. الأمين الدودو خاطري    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    دبابيس ودالشريف    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السر قدور باع لنا الترام في «أغاني وأغاني»
نشر في الأهرام اليوم يوم 19 - 08 - 2011

لم يحظ مشروع إعلامي بصيت مثلما هو حال برنامج (أغاني وأغاني) الذي أقام دنيا الناس، ولم يقعدها بعد. ليس الغناء فقط هو العامل الأساس الذي شغل اهتمامات المشاهدين، وكثير مستمعين حرموا من نعمة البصر. وكذلك لم يكن الشوف وحده هو الذي أثار، وما يزال، يثير غريزة التواصل العميق مع تخريجات البرنامج الترفيهية.. برغم أنه لا يضيف بعض شيء يذكر إلى مسيرة النهر الغنائي الخالد. الحقيقة أن أسباباً عدة، ومركبة، أسهمت في أن يخطف السر قدور نجومية البرنامج، ويعمق بالمقابل وجود نجوميات غنائية في شهر تهجع فيه الآنام لمسح آثامها بالسجود الكثيف، ووساوسها بهدهدة مضغة القلب. أولاً، لا تكتمل معرفة سر هذا الاهتمام بالبرنامج الشهير الذي لم يضف فنياً، ولكن انتشرت سمعته إعلامياً، إلا بمعرفة سيرة السر أحمد قدور كإعلامي مخضرم، ومغامر، وسوداني متسامح بنهج الأجواء التي سبقت عصر تسريب الآيديولوجيات التي نحرت سودانوية أمدرمان الباذخة، وباعدت بينها وأزمانها، وأمكنتها، البدوية والعصرية معاً. إن تاريخ الأستاذ قدور حافل بالإشراقات، والانكسارات العاطفية والوطنية، ما في ذلك شك. فقدور من ذلك الجيل الذي تفتح وقد وجد أمامه مجتمعاً يتشكل جينياً، واجتماعياً، ويعرب عن أمله في الاستقلال بقيمه الدينية ذات القسمات الصوفية. وكذلك كان يأمل جيل قدور الخارج من (مطمورة التاريخ) في صياغة مشروع سياسي لبقعة كثيفة التنوع، وغنية بتاريخها غير المكتوب، ومع ذلك حظها من النهضة سيئ. نشأ قدور في حواري أمدرمان الثلاثينات، والأربعينات، والخمسينات، حيث كانت أقوام المدينة المصنوعة - كما أفتى البروفيسور عبدالله حمدنا الله - تستوعب بالتسامح في أحيائها، ونفاجاتها، الشوام، والأغاريق، والهنود، وأبناء المسالمة المعمدين، وبقية الأولاد (الحمرتجية) الذين نالوا تشكيك الإمام المهدي. (أمدر أمان)، أو (أبدرامان)، كما رأى المؤرخ يوسف فضل، في اجتهاداته البحثية لسبر غور المدينة، كانت تجهد نفسها في تأسيس، وصهر، ولجم عصبية منظوماتها الأقوامية التي تحكم الوطن الجريح. والحال هكذا تمسك نخبة أمدرمان برسن القيادة ثم تتقهقر لاحقاً، وتصبح الجماعة الفاعلة وسطها غرباء، ومهمشين، أمام المد الأصولي الذي سلم القياد إلى الذين يجاهدون ضد إرث السودانوية بحسن نية، أو بسوء قصد. كانت الأجواء السياسية، والثقافية، والفنية، والاجتماعية، لأمدرمان الحركة الوطنية تفور، وتمور، من أجل التعبير عن خلجاتها، وسرائرها، وتذمراتها، وزمجراتها، المشمولة بالبحث عن جذر الذات، وفي الوقت نفسه شرعنته قومياً. وكان حلم النقلة من مخاضات صناعة الهجين، والتهمة بالصياعة، إلى صياغة الوجدان السوداني، هدف أنتلجنسيا المدينة التي تلهجت يوما بعربي التعايشة في اللحظات التي سبقت سقوطها، كما دلنا رائد تعليم البنات بابكر بدري حين أعطانا صورة بانورامية لديموغرافية، وأنثروبولوجية، وأوتوغرافية، مدينة الترام، والتراب، والتي حكى علي المك قصتها، وثرثر بالحرف الندي عن قمرها الجالس في فناء الدار. كان حلم التحديث، وآمال المد الوطني في العاصمة، والمديريات الست، يغلي بنار أحزاب الوطن، ونقاباته، وعشائره، وبيوتاته. وهناك يقف شباب مؤتمر الخريجين، قبل ضرب أسفين أحلامهم، مخططين وناقدين لخطوات السيدين، ويدعمهم الموسيقي الشاب إسماعيل عبدالمعين كفاحاً بأغنيات منها (صه يا كنار). صوتا الإذاعيين خاطر أبو بكر، وصلاح أحمد محمد صالح، كانا ينقلان أخباراً سارة، وأخرى مؤسفة، عن تخاذلات ثقافية، وهيمنات طائفية على تمثيل، وإخراج، وأداء، الموقف الوطني. على المستوى الرياضي كان السر قدور قد أحب النقد الرياضي، ومريخيته لم تكن لتخفى، هي مثل مريخية الأديب طه محمد طه، وأحمد محمد الحسن شيخ الإعلاميين الرياضيين، وأدهم علي الذي كان يتغزل في الأحمر عبر (الأدهميات). غطى قدور مع هؤلاء الإعلاميين مباريات الهونفيد المجري، والردستار. وخبر أيضاً كسرات حسن عطية اللاعب الصاروخ، ومراوغات صديق منزول، وبرعي القانون، وعبدالخير صالح، وعمر موسكو، ودريسة، وحسبو الكبير، والجاك عجب: أول كابتن للفريق القومي السوداني. وجد المسرحي السر أحمد قدور في غدواته ورواحه الأمدرمانية ابن الأبيض إسماعيل خورشيد يتسكع في حواري أمدرمان ثم يتلصص في سماع كبار (أدباتية سوق الموية). وجده وقد استولى، بواسطة الشعر العاطفي النبيل، على صوت صلاح محمد عيسى الآسر، بينما تومات كوستي كن يتفنن في تنويع نغم التم تم. مع خورشيد سار قدور في درب العصامية. كانا يتعرضان للطرد بسبب صغر سنهما من ندوة عبدالله حامد الأمين الأدبية، كما أسر الشاعر عبدالله النجيب للكاتب، وكان ثالثهم الذي قتلته عيون أمدرمان حتى كني بها. ومع ذلك لم يستيئس الشابان قدور وخورشيد من البحث عن المعرفة، ثم فجأة يتخطفهما مسرح حسن عبدالمجيد الذي ألف لهما الإسكتشات، وأصبحا، من بعد، ممثلين باهرين، ولاحقاً يكتبان المسرحيات ويتنافسان في الآن نفسه، على نسج الشعر الغنائي للعاقب، وسيد خليفة. وهناك في طرف ليل الخرطوم وجدتنا مع عبدالفتاح الله جابو، وخليل أحمد، وحسن بابكر، حيث كانت خرطومهم تنافس أمدرمان بأنديتها، وبمركز جنوبها، وبموسيقاها التي تخالف ما هو عليه الريع الموسيقي لعبدالرحمن الريح، والذي أكثره يذهب بخماسيته القحة إلى إبراهيم عوض، والتاج مصطفى، ولاحقاً الجابري، ومحجوب عثمان. في أربعيناتها أيضاً، كان عبدالخالق أيضاً يمتح من بئر الماركسية في شبابه الأمدرماني الأنيق، ليزود حراكه الذي أودى بشبابه، ففقدت البلاد وطنياً في ملابسات الصراع بين الآيدلوجيا والتوتاليتارية، مثلما كان هناك شيخ صادق عبدالله عبدالماجد يتحفز لزرع فكرة الإخوان وسط طلاب المعهد العلمي. ومع ذلك لم يقع قدور في شراك الشيوعية ولم تصطده تجنيدات الأخوان. ولاحقاً تستبين جذوره الحزبية. بجوار ميدان البوستة تشهد قهوة جورج مشرقي، وقهوة يوسف الفكي توليفاً ما بين الشعر الغنائي، وألحان علاء الدين حمزة، وصوت الفلاتية الذي شذبه الملحن العظيم أحمد زاهر، وتفانين برعي محمد دفع الله مع عبيد الطيب. وكانت الخرطوم، آنئذٍ، ما تزال تستلهم من مسرح الجاليات، وصحف ما قبل الاستقلال التي أسسها السيد عبدالرحمن: حضارة السودان، والنيل. وكانت هناك الرأي العام لإسماعيل العتباني، والسودان الجديد لأبي الصحف: محمد يوسف هاشم. أما ديمتري البازار الذي اقترن بالمغنية حوا خميس فكان يحاول ربط أمدرمان بالحداثة في عصر الفونوغراف. يتأبط الإغريقي البازار في رحلته الميمونة بالقطار كمنجة السر، ويغادران إلى قاهرة الأربعينات، والخمسينات، بمعية الحاج سرور ثم يعود الرهط بجراب الحداثة الموسيقية. والحال هكذا تنوع مداد قدور، وسال سياسياً في صحف حزب الأمة، والذي بقي إلى وقت قريب وفياً له، ولذلك ليس من المستغرب أن يدافع عنه الإمام بتصريح مدسوس في الصحف نكاية في محاولة الأئمة ضرب حركة ابن الأنصار الذي لا يحفظ شيئاً من الراتب ولذلك تشع ضحكاته الجلاجل في عدسات المخرج مجدي عوض صديق. المهم في كل هذه القبسات الزمانية والمكانية، هو أن حصيلة البيئات المعرفية الأمدرمانية كانت خصبة، وموحية، أمام الفتى الكشكول الذي أراد أن يكون له في كل هذه المجالات إسهام، وشأن، واسم، وقد رمى، وما رمى السر قدور. فقد ألهمه الله من تجربة التساكن الأمدرمانية، وتثاقفاته مع أبناء الخرطوم، وثقف قلماً شعرياً ليستطيع الإحاطة الكلية بكل هذه العواطف، والأحلام، التي كانت تثقل كاهل الإذاعة، والتي في حوشها تدرب ردحاً، ثم صادق، ثم خاصم، فتكتل. ومع ذلك أرسل رسالته عبر الأثير، سواء من خلال صوت الكاشف، أو العاقب، وفي ما بعد أعطى أب نعوف (حنيني إليك). يا لهذا المجد الذي زان السودانوي السر أحمد قدور. ولما لم تعد الأخبار التي يتلقاها قدور في مهجره القاهري تأتي بمساوئ الطيب مصطفى الذي أوقف الأغاني المسجلة من البث، وأوصد الباب أمام كمنجة عبدالله عربي، وجيتار محمد جبريل، ودربكة عبيد، وصفارة أسامة بيكلو، فكر شاعرنا في ركوب الصعاب. ولما بدت الإذاعة - وإن تم التخلص من فرقتها التي كان يمكن أن تتطور إلى جوقة ماسية - في التمهيد للتحول الديموقراطي أسر قدور لأصدقائه أنه من داخل الحوش الذي فيه ترعرع في شبابه يستطيع أن يبذل الاجتهادات الفنية، ويأتي بما لم يستطعه الأوائل.عاد شاعر (يا ريت) من رحلته الطويلة إلى القاهرة، ووجد أن المناخ قد تقبل بعض البرامج الإعلامية، وليس كلها. فالتمكين الإسلاموي قد شبع متمدداً، ولكن نيفاشا قصقصت بعض أجنحته الضاربة، ولا يهم كثيراً، أو قليلاً، بضع جماليات في الصورة، والصوت، ما دام أن ذلك لا يصيب ديناصور التمكين في مقتل. وما دام أن المشروع البرامجي لقدور، وإن كان يتيح للمبدعين، والشعب، الترويح بدلاً عن مطاردة زوايا التراويح، لا يقضم تفاحة الكسب الأخواني فهو الأحق برضا أهل البرمجة الإعلامية العليا به. عرف قدور بخبرته الأمدرمانية، والإعلامية، إمكانية الدخول عبر بوابة الفن، وليس عبر بوابة العشائرية السياسية التي وظفت كثيراً من المبدعين المعارضين، ومالنا نذهب بعيداً فأخوه الدكتور الذي لا تتذكر له الأمة قصيدة واحدة قد صار رئيساً ومتحدثاً باسم الأدباء السودانيين في المحافل المحلية، والعربية. بالموجهات (الطايرة) فهمت القنوات الفضائية - من الجهة الأخرى - المقصود من لعبة التحول الديموقراطي، فلعبت دوراً تراه أصيلاً في نشر ثقافة الديموقراطية الفنية عبر الاهتمام بالغناء، لا الدراما التي لا تنجب رأسمال (مريسة تام زين) حتى. فقناة النيل الأزرق، خلافاً لقناة الدولة الرسمية، والتي يقف على رأسها الأستاذ حسن فضل المولى حاولت استقطاب المبدعين، ومن بينهم هاشم صديق، وأبو عركي البخيت، وهما قد دخلا فخرجا دون أن يتنازلا عن مواقفهما. أما أستاذنا عبدالله علي إبراهيم فصار زبوناً دائماً للصحف والفضائيات.. يحدثها عن الإرث النضالي للشيوعية في البلاد، ويؤيده في ذلك المذيعون الإسلاميون ويضحكون عليه بالقول إن الشيوعية هي إرث الأمة في زمن هجمة الهامش، ذلك مهما تباعدت المسافات وغاص قطارها في الفناء، ومهما تهدمت قلعة النضال العطبراوية. إذن لا بد من رمية، ولماذا لا يرمي قدور المنتمي لأحزاب القبلة رميته إذا كان الزراليخ من اليساريين يرمون فيصطادون (الظروف) المليئة بعطايا القناة الفضائية. وهكذا بدأ الإعلامي المخضرم في تمتين شباكه حتى إن رمى أتى الصيد ثميناً، وأصبحت الشباك في كل عام تدر المليارات الرمضانية لرأس المال الإسلاموي الشبق. ولا بأس من أن يعطي المشروع فرصة الطل للمغنواتية الوسيمين والمغنيات الجميلات. وما أن أكمل الجنوب انفصاله بالاستقلال وأصبحت البلد مهيأة لدستور إسلامي كامل الدسم هاج، وماج، أولئك الذين لم يفهموا الأرضيات الأمدرمانية التي سوقت قدور، وساقته إلى أن يكون على مرمى حجر من مدافع السلفيين الرمضانية، والذين احتلوا أمدرمان جورج مشرقي، وريفوا، بالخيام السلعية، سوق الصاغة، وميدان البوستة، والمدرسة الأهلية. وهكذا فجأة تحول البرامجي الذي نفس عن كرب المشروع الحضاري، واحتل لحظات ما بعد الإفطار لأعوام ستة، إلى موضوع خطب الجمعة، حيث يوصف تارة بالعجوز المتفسخ الذي يستجمع البنات والأولاد لممارسة الغناء وتبادل النظرات في حانة فضائية للغناء الذي لم يبحه الأئمة من السلف الصالح بهذه الصورة المسبوقة، كما قيل.. وفي رمضان التهجد، والخشوع، والهدهدة الروحية. هكذا قال بعضهم عن ابن الأنصار، ولذلك فهمنا تصريح الإمام الأكسفوردي العاجل لرد غائلة التهجم المذهبي من أهل القبلة، هذا برغم أن الإمام صاغ دفاعه بعناية فائقة حتى لا يغضب الذين يضمرون نحو (وسطيته) أشكالاً من الاستخفاف.
{ لا أخاف على صديقي العزيز عصام محمد نور وبقية الأصوات، وخصوصاً طه وشريف، من شيء إلا إهدار أصواتهم في التكسب بأغاني المبدعين الراحلين والمقيمين، والذين كانوا في عشريناتهم قد ملأوا البلاد بالإبداع، ونافسوا الرواد، وأضافوا لمسيرة الغناء درراً خالدة. ولكنه، على كل حال، زمن متخلف ومختلف، حيث يداهم المرض الفنانين الكبار محمد ميرغني، وعبدالعزيز المبارك، وإبراهيم حسين، بينما يسهم قدور في كل عام في اجترار تجاربهم الخاصة، في حين كان بإمكانه، وهو الإعلامي المخضرم أن يوجه هؤلاء الذين تجاوز بعضهم مرحلة الشباب، إلى البحث عن حروف، وأنغام، وموسيقى جديدة تضاف إلى إرث أغنية أمدرمان، والذي غطى إعلامياً على أغاني الربوع. وما الذي كان يمنع الأستاذ قدور من أن يفرض على الشباب في كل عام تقديم أعمالهم الخاص مهما يكن تواضعها أمام أغنيات الرواد؟ ألا يدرك قدور أن الاشتراط على تقديم الجديد كان يمكن أن يحفز نادر خضر، وفرفور، وعصام البنا، وآخرين، للاجتهاد طوال العام، بحثا عن شعراء وملحنين يقدموا لهم أعمالاً تليق بأصواتهم الجميلة؟ أوليس من الأفضل لهؤلاء المغنيين أن يخلدوا أنفسهم إبداعياً عبر أعمالهم الخاصة، والتي من خلالها يتطورون ويحافظون على سريان نهر الغناء الخالد؟ ومن قال إنه ليس هناك كثير من مغنيين مجيدين وجادين يستطيعون أن يقدموا جديدا إن كان هناك تنافس حقيقي بين الأصوات المتوافرة، والمتنافرة، في ساحة الغناء؟ ولماذا لا تتاح الفرصة لشباب آخرين ما دام أن هؤلاء المغنيين الراتبين قد أخذوا فرصاً للظهور خلال الأعوام الستة التي خلت؟. على كل نجح قدور وطاقمه الفني في أن يشغل المشاهدين بقصة غير قصيرة عن فشل المشروع الحضاري في تطوير المعطيات الفنية للبلد، ونجح أيضاً في أن يرينا تطلع الرساميل الإسلاموية في إمكانية الاستثمار في التاريخ الغنائي الذي حورب بهوادة، ونجح كذلك في أن يحول اهتمامات الناقدين من إظهار ملامح الجدة الإبداعية إلى الإهتمام بتفاصيل عن أداء وأصوات موظفة، من حيث تدري أو لا تدري، لرسم سياسة حكومية عامة تهدف إلى إلهاء المبدعين عن تطوير الموروث الغنائي السوداني، وتحجيم أحلامهم في حدود اجترار الماضي دون السعي لتحقيق أصالة الجيل الفنية، وتفجير طاقاته، في التعبير عن واقع مجتمعهم. ولعل الذين يستضيفهم البرنامح حققوا شهرتهم اللحظية، إذن، فما الذي يحملهم لاختيار الطريق الصعب لتخليد إبداعاتهم. ورحم الله مصطفى سيد أحمد، والعميري، وعبدالمنعم الخالدي، وخوجلي عثمان، وهم آخر الراحلين الذين فضلوا أن يعرفوا بهمهم الكبير في الغوص ملياً في نهر الإبداع الخالد لجلب لآلئ الإيقاع، وصدف النغم، والتحية لأحمد شاويش، وعلي السقيد، وسمية حسن، وآخرين لم تأت تجارب غنائية جديدة تتجاوز جمال ألحانهم، وخصوصيتها، وحلاوتها.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.