(كنا نصبر على ليبيا، والذي يجبرنا على الصبر على المر ما هو أمر منه).. تلك كانت العبارة التي أطلقها وزير الخارجية «علي كرتي» في رده أمام المجلس الوطني بأم درمان، حينما اتهم المتحدث الرسمي للخارجية وقتها «خالد موسى» حركات دارفور المسلحة بالقتال جنباً إلى جنب مع قوات القذافي في أيام الحرب الأولى في ليبيا، ويبدو أن صبر السودان - الذي يتحدث عنه مهندس دبلوماسية الخرطوم - الذي اكتوى من العقيد في قضايا عديدة وشائكة، قد نفد، بدءاً من أزمة دارفور التي استوت على سوقها واستعصت على الحل لسنوات ثمانية، ووجود الحركات المسلحة في ليبيا ودعم العقيد القذافي لها، وخاصة الحركة الأضخم وجوداً وتاثيراً على أزمة دارفور ومساندة رئيسها د. خليل ابراهيم، في غياب الحوار السياسي الذي لم يستو على ساقة بين الخرطوم وليبيا طيلة سنوات الأزمة واتهامات تكيلها الخرطوم من حين لآخر لعقيد ليبيا بتأجيج الأزمة في الإقليم المضطرب وتهديد أمن البلاد. ومطالبات ما انفكت تطلبها سراً وعلانية من النظام الليبي بالتوقف عن دعم ومساندة الحركات لحل الأزمة الدارفورية، تلك المطالبات التي كان يقابلها نظام معمر القذافي بقذف مزيد من الأزمات في عمق الخرطوم كان أخطرها بحسب لغة السياسة الاستهداف الذي نفذته حركة العدل والمساواة بمهاجمتها للنظام في عقر داره بالخرطوم مايو 2008 وبعد أن كشف الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية السفير العبيد مروح، عن زيارة وزير الخارجية «علي كرتي» إلى بنغازي والقاهرة أمس، قال مروح إن كرتي سيزور بنغازي منتصف اليوم ويلتقي مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي الليبي، للتهنئة والمباركة بنجاح ثورة 17 فبراير، باعتبار أن السودان من دول الجوار، وأنه من أوائل الدول التي اعترفت بالمجلس الانتقالي وهنأت الثورة الليبية. وأوضح مروح أن وزير الخارجية سيشارك في اجتماع الجامعة العربية مساء اليوم بالقاهرة الخاص بمناقشة قضايا ليبيا بعد الثورة، وزيارة كرتي ليست هي الأولى بعد أن سبقتها زيارة إلى ليبيا قام بها مدير جهاز الأمن الفريق أول محمد عطا فضل المولى.. زيارة مفاجئة للعاصمة الليبية طرابلس يوم الثلاثاء بعد 24 ساعة فقط من سقوط طرابلس في أيدي الثوار الليبيين، ورغم أن زيارة عطا المولى كانت لإيصال رسالة خطية من المشير عمر البشير إلى رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفي عبد الجليل في معقله ببنغازي لتهنئته بسقوط نظام القذافي واعتراف الحكومة السودانية بالمجلس، إلا أن ما يثير الانتباه هو قيام عطا المولى بزيارة طرابلس التي لم تكن وقتها تقع تحت سيطرة الثوار بالكامل، وكانت تجرى بها عمليات تمشيط عسكرية في بعض الأحياء جنوب العاصمة وحول باب العزيزية نفسه، وسارع الرجل إلى دخول طرابلس وسط زخات الرصاص من أجل تضييق الخناق على خصم الحكومة السودانية القوي د. خليل إبراهيم المتواجد في طرابلس منذ قرابة العام في وضع يشبه الإقامة الجبرية من قبل العقيد القذافي بعد أن رفضت تشاد استقباله العام الماضي بعد مغادرته للدوحة التى ترعى الوساطة بين الخرطوم وحركات دارفور المسلحة. وقبل الثورة الليبية لم تتخذ حكومة الخرطوم أي خطوات أو اجراءات دبلوماسية تجاه ليبيا وفق الأعراف المعمول بها بعد تأكدها من دعمها للتمرد في دارفور، كما أن وزير الخارجية أشار في وقت سابق إلى مشاركة الحركات الدارفورية في القتال مع عناصر القذافي، وأن لها معسكرات في شرق ليبيا وعدد من قياداتها تقيم في فنادق، مبينا أن الثوار قاموا بتجريد عناصر الحركات في معسكر حول مدينة الكفرة الليبية من أسلحتهم واحتجاز بعضهم وفرار البعض الآخر باسلحته، وتجاوزت اتهمات الخرطوم حد دعم الحركات إلى ما هو تهديد بإسقاط النظام في الخرطوم حينما كشف وزير الدولة برئاسة الجمهورية رئيس الوفد الحكومي لمفاوضات الدوحة د. أمين حسن عمر عن مخطط ليبي لإسقاط النظام في الخرطوم، طرفاه الرئيس القذافي ورئيس حركة العدل والمساواة، قضى بتأسيس جبهة مقاومة عريضة بكمبالا بتمويل ليبي، ونبه إلى أن القذافي احتفظ بخليل وظل لفظياً يتحدث عن دعم الدوحة وعملياً خطط لتاسيس الجبهة. وكشف حسن عمر عن مخطط للقذافي لمعاقبة الخرطوم لرفضها إعادة ملف دارفور للجماهيرية. ويبدو أن وزير الخارجية علي كرتي في طريقه إلى بنغازي لاستكمال ما بدأه مدير جهاز الأمن، وعلى ضوء ما رفعه له من تقارير، ليكمل الرجل مراحل الدبلوماسية لإعلان اعتراف السودان ودعمه أمام قيادة المجلس الانتقالي بليبيا بعد أن تحفظ السودان الأيام الماضية عن الاعتراف به رسمياً قبل اعتراف اثنين من المؤسسات الإقليمة التي يتبع لها وهي الاتحاد الافريقي والجامعة العربية، ويبدو أنه كان في انتظار كلمة هاتين المؤسستين ليقول كلمته، لأن السودان كما قال الخبير الدبلوماسي الرشيد أبوشامة في حديثه ل (الأهرام اليوم) لديه تجاوب كبير تجاه ليبيا منذ بداية الأزمة فيها وأرسل مساعدات طبية وإنسانية قصد منها إرسال رسائل سياسية كثيرة، ويبدو أن الرجل ينتوي استكمال مهمة عطا المولى وفق التقارير الذي جاء بها الأخير من زيارته إلى طرابلس، ويبدو أن الدعم الليبي لخليل إبراهيم سيكون محور الحوار الرئيس بين كرتي ومصطفى عبد الجليل، وبحسب الرشيد أبوشامة فإن كرتي ليس بالضرورة أن يطلب من عبد الجليل التوقف عن دعم خليل فقط، وإنما ينسحب الحديث عن المطالبة بتسليم خليل، كون أن الأخير مطلوب إلقاء القبض عليه بواسطة الشرطة الدولية (الأنتربول) بعد حادثة الهجوم على أم درمان، ثم يلتفت كرتي إلى قضايا الدبلوماسية ليعلن للمجلس الانتقالي اعتراف السودان به مع الدول العربية والاتحاد الافريقي ودعم السودان للمجلس. ونبه أبوشامة إلى أن زيارة الرئيس الأخيرة إلى قطر كان الغرض منها التفاوض مع القيادة القطرية بشأن العقيد الليبي لأن السودان تضرر من وجود القذافي في ليبيا، لأن نظام العقيد فتح كل الأبواب للعناصر الدارفورية المقاتلة ومدهم بالسلاح والسيارات، من بينها تلك التي غزى بها د. خليل ابراهيم أم درمان. ويرى أبو شامة في استطراده أن القذافي تسبب في ضرر كبير للسودان في دارفور، وتوقع حدوث تحول وتغيير كبير في القضية التي استفحلت لكون أن الحركة سوف تفقد مصادر الدعم الأساسية المتمثلة في القذافي لأنه انتهى، ورأى أبو شامة أن القذافي كان يعمل بفلسفة إضعاف دول الجوار ليظل هو مركز القوة. ويرى أبوشامة أن وجود خليل في قبضة الحكومة السودانية سيكون ضمان واطمئنان للحكومة، وأنه لم يعد يمثل تهديداً لها ويكون بالإمكان دفعه الى الدوحة لاستكمال مسيرة السلام.