الجلوس إلى زعيم (المؤتمر الشعبي) الدكتور «حسن عبد الله الترابي» يدرجه الصحفيون في باب (صيد الفوائد)، فالرجل من رموز الحقبة السودانية الحديثة.. منذ الستينات وحتى اللحظة ظل مشاركاً أصيلاً في صنع سياسات الدولة عند الاقتراب من مركزها، وطبخ الأجندة المعارضية حالما اختارت له المقادير الجلوس على الرصيف. بعد تخرجه في جامعة الخرطوم، ودراساته العليا بأكسفورد ثم عودته بظفره الأكاديمي من السوربون، بدأ غزل دوره السياسي ضمن النسيج (الأكتوبري).. وفي السبعينات كان على موعد مع (كابينة) الحكم كمشرع فاعل وملهم لبرنامج النهج الإسلامي في الحقبة المايوية، وذلك بين قوسي معارضته للنميري مطلع ثورته وآخر أيام دولته. إسهامه الفاعل في صناعة ثالث أكبر الأحزاب السودانية ضمن الديمقراطية الثالثة يجد اهتماماً كبيراً لدى الغربيين والباحثين حول الإسلام السياسي في المنطقة الأوسطية، وهو اهتمام له ما يعضده، خصوصاً وأن (الثورة الخمينية) كانت قد نحتت وجودها ضمن خارطة الإقليم، كنظام جديد يقضّ مضاجع اليانكي. أما (الإنقاذ) فستدون المرويات السودانية لاحقاً أنها ثورة من تأليفه وإخراجه.. وينشط الرجل سياسياً اليوم - في أعقاب (المفاصلة) المشهودة - تحت لافتة الأمين العام المؤتمر الشعبي. الشاهد أن الترابي طوال هذه الفترات ظلّ يمثل قلب الفاعلية في المشهد السياسي السوداني - وكذا الفكري - دون غمط أيما جهد لمجايليه في الكيانات والأحزاب الأخرى على ضفتي المعارضة وسدة الحكم. (الأهرام اليوم) استنطقت (ترابي) حول العديد من القضايا التي تفرض نفسها راهناً، معاً نقرأ تأملات الدكتور ورؤاه حولها: { د. الترابي.. غبتم عن الاجتماع الذي دعا له الرئيس البشير الأسبوع الماضي رؤساء الأحزاب لإبلاغهم بتطورات الأوضاع بولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان والاستماع لرؤاهم هل هو بسبب عدم تلقيكم دعوة رسمية أم ماذا؟ - تلقينا دعوة ووصلتنا منتصف النهار لاجتماع تنويري، أي بلغة الأمر، ووقع عليها الفريق بكري حسن صالح، بمعنى أن يأتي الجنود ليستمعوا لتنوير من القائد وهم مظلومون لا يعلمون شيئاً وبعد ذلك ينتشرون حسب ما بلغهم الأمر، ثانياً هم قد فعلوا كل الفعل، لأى شيء نأتي بعد ذلك؟! { ألم يكن من الأفضل حضور الاجتماع وطرح اعتراضاتكم هذه ورؤيتكم على الطاولة؟ - جربنا في قضية الجنوب ولم يُسمع لنا صوت ولم نمنح فرصة حتى انفصل، وجربنا في دارفور ولم يسمع لنا رأي ولم نُدع ولم يرض أن يقابلنا لسنوات حتى انتهت وقال بعد ذلك إنه لن يفاوض أحداً، وكذلك في قضايا الحريات رفض، لذلك نحن نُستغفل وهذه ليست الحادثة الأولى بل هذه من أعراف هذا النظام، ولا يوجد حل إلا بزوال هذا النظام وهذا ما توصلنا إليه بالإجماع إلا أنه فينا من لا يزال يقلب الرأي. { ولكن أنت أيضاً غبت عن اجتماع رؤساء أحزاب المعارضة الذي حدد لمناقشة الأوضاع بالنيل الأزرق وهو الغياب الثاني على التوالي لاجتماعات الرؤساء..؟ - (أجاب مسرعاً قبل إكمال السؤال): عندما بلغت بالاجتماع قلت لهم إنكم لم تتهيأوا للاجتماع، فقط أدنتم الحرب، أنتم عندكم فروع في الولاية كان علينا أن نعرف من الذي بدأ الحرب وليس أن نقول إننا ضدها، كان علينا أن نعرف كيف أُصيب البشر والبيوت والرعي والزراعة لأن هذا موسم زراعة، وكم خرج من المدينة وكم قتلوا، وكلهم يعلمون، قلت لهم تحصلوا على معلومات من قواعدكم وليس الإعلام المضبوط، ومن ثم تحديد الموقف، هل يعزز ذلك رأيكم بتعجيل إسقاط النظام، فإذا فرطنا كما فرطنا في ثلاثة شواهد عليه ورجعنا مرة أخرى لنرجو فيه رجاءً ستحدث هذه وحدثت بالفعل وستحدث غيرها في بلد آخر وستحدث رابعة وخامسة وهكذا، أم نبدل رأينا الذي أجمعنا عليه ويكون كل الرجاء والأمل في الحوار مع هذا النظام. { بصورة أكثر تفصيلاً الرأي السائد أن المؤتمر الشعبي مع خيار التصعيد باعتبار أن كل هذه المشاكل تباعاً لن تحل بدون إسقاط النظام؟ - القرار اتخذته لجنة فرعية للقيادات من كل الأحزاب إجماعاً، وجاء الرؤساء بدار حزب الأمة واتفقوا على ذلك إجماعاً ورتبنا عليه تعبئة كل القرى والمدن والمهن بالنمط التعاوني الجماعي، وأن لا يكون التحرك محدوداً بل يعم كل السودان، إن أقمنا تظاهرة أو إضراباً، حتى لا يتم احتواء الأمر، وهم لم ينفوا ذلك. { يتردد أن سبب الغياب هو الخلاف بينكم وحزب الأمة؟ - حزب الأمة بعد ذلك ظل يحاور النظام، ونحن لا نحاوره لأننا أجمعنا على التعبئة وإسقاط النظام كما يفعل السوريون الآن، كلهم يقولون لا جدوى للحوار مع بشار. { بالتدقيق هل سبب غيابك مشاركة نائب رئيس حزب الأمة؛ اللواء فضل الله برمة ناصر، في اجتماع البشير؟ - لا، فهذا معناه أن حزب الأمة بمشاركة «برمة» لم يخالفنا، وإلا لكان ذهب الصادق المهدي وذهب مولانا محمد عثمان فهما أرسلا غيرهما. { ألا ترى أن الخلافات بين قوى المعارضة جوهرية؛ أنتم تدعون إلى إسقاط النظام وحزب الأمة يرى إصلاحه، وهل بالإمكان الاتفاق على موقف محدد حيال ما تشهده البلاد؟ - الخلاف في الوسائل، كلهم ضد النظام، البعض يرى إصلاحه، والبعض الآخر يرى أن محاولات إصلاح النظام خسّرت البلاد كثيراً، لذلك لا بد أن نزيله، ولكن الثورات كلها لم تقم باتفاق الأحزاب؛ لا أكتوبر ولا أبريل ولا في مصر ولا تونس ولا سوريا ولا اليمن، الأحزاب دائماً تنتظر وتتشكل حتى تشتعل الثورة وتنضج الفاكهة فتأتي لتقتسم السلطة. { البعض الآن يرى أن المشكلة ليست من يحكم السودان بل مسألة وجود الوطن.. هل تفكرون في ذلك؟ - طبعاً نحن كلنا كنا مجمعين على أن نستدرك الجنوب قبل أن ينفصل، وبعضنا كان له فرع في الجنوب، وبعضنا لم يكن له، ومع ذلك نحن مجمعون على العمل للوحدة، ولكن النظام نفّر الجنوب حتى احتدت الأوضاع، وكاد يكون الانفصال إجماعاً، وكذلك دارفور، عملنا كل المحاولات؛ بعضنا له قواعد والبعض قواعده قليلة، وكذلك جنوب كردفان، والآن لم تحسم قضايا جنوب كردفان ولا النيل الأزرق، وهم يحسبون أن حسمها بالقوة، ولكن ما يزال الأمر يستعر، ووجود السودان الآن في خطر، وأنا أرى الخطر وأتحدث عنه كثيراً، لا لأنني أخاف من أن لا نفعل شيئاً و(نتخدر)، ولكن لنحتاط. { هل تفكرون في إسقاط النظام عسكرياً؟ - نحن لا نؤمن بذلك، فالجيش يأتي بعد أن يتحرك الشعب، يأتي ليؤيده كما حدث في أكتوبر وأبريل ومصر وتونس، وكما يحدث الآن في سوريا، فالجيش تبع الشعب وليس الشعب تبع الجيش. { هناك أنباء عن نية المؤتمر الشعبي الانضمام لتحالف (كاودا) ولقاء مرتقب بين عبدالواحد محمد نور والمحبوب عبدالسلام؟ - الكل يعرف مَنْ نَشَر ذلك الخبر، وقبل نشره كان ينبغي أن نسأل المؤتمر الشعبي عنه، وليس نشره نقلاً عن مصدر مجهول وليس الحزب المعني. { في زيارتك للقاهرة التقيت على نحو مفاجئ بمولانا الميرغني بعد ما يمكن تسميته بالقطيعة لسنوات طويلة؟ - لا، لم تكن هناك قطيعة، كنا نلتقي ويأتيني في العزاء وأزوره في المناسبات، والحزبان كانا يلتقيان وهو يرسل مناديبه منذ أيام مؤتمر جوبا. { كيف تم ترتيب اللقاء؟ - بدعوة منه، وهو كان موجوداً في القاهرة، ومصر الآن تغيرت، وهو يهتم بما يحدث في السودان ومصر، وأنا لم أكن أعلم أنه في القاهرة، ولو كنت أعلم لذهبت لزيارته قبل أن يدعوني، لأن الناس في الغربة عادة يزورون بعضهم بعضاً. { ماذا عن اتفاقكما في لقاء القاهرة على اللقاء مجدداً عقب عطلة العيد بالخرطوم، خصوصاً مع تسارع وتيرة الأحداث؟ - نحن لا نقصد اللقاء الفردي، لأني لا أحكم حزباً فرداً ولا هو، فحزبه واسع كما نعلم منذ الأيام الأولى، هو حزب المثقفين والمستنيرين وقد نلتقي إن شاء الله. { قريباً؟ - لا يوجد ما يمنع ولا توجد حدّة، هل قرأتم قبل ذلك عن هجوم من الترابي على الميرغني أو من الميرغني على الترابي، قد يكون ذلك مع آخر.. { عذراً على المقاطعة.. على ذكر الآخر رشحت أنباء عن اتفاقكم مع حزب الأمة على وقف التصعيد الإعلامي والتفرغ لمناقشة القضايا الوطنية؟ - جاءنا وفد من هيئة شؤون الأنصار، وتحدثنا معهم حديث أهل الدين، وتحدثنا أيضاً في السياسة وقدموا لنا بيان حزب الأمة ولم نختلف كثيراً. { أنتم تتحدثون عن علاقات مع الجنوب، ولكن الشاهد أن حزب الأمة كان سبّاقاً إلى زيارة جوبا بدعوة من سلفاكير؟ - ألم تسمعوا بشخص كبير كان يسبب انشقاقاً في حزب الأمة وبيت المهدي ومن أكبر المستثمرين الآن في الكهرباء بالجنوب وهو من دبر الزيارات السابقة والأخيرة؟ { من تقصد؟ - ضحك برهة ثم أجاب: رئيس حزب كبير خرج ودخل بعد أن حلّ حزبه ودخل فرداً، ولكن لا يزال له أوثق الصلات بالجنوب، لا أقول سياسياً بل اقتصادياً، والاقتصاد يمكن أن يفتح باباً للسياسة والسياسة يمكن أن تفتح باباً للاقتصاد وهكذا. (التحرير: فهمنا أنه يقصد مبارك الفاضل). { الآن ما هي طبيعة العلاقة بينكم والجنوب والحركة الشعبية بالشمال؟ - وثيقة وموصولة أخبارهم ورؤاهم في الجنوب والجنوب الجديد الذي يمتد حتى الشرق ودارفور ونتصل بهم بانتظام. { هل توجد اتصالات مباشرة بينك وعقار؟ - أنا عادة لا أستخدم التلفونات، ولكن توجد اتصالات بين قيادات من حزبنا وعقار قبل وبعد الحرب، ونعلم روايته للأحداث، وكذلك رأي الجنوب في ما يجري بجنوب كردفان والنيل الأزرق. { برأيك هل خطط عقار للحرب؟ - حسب البينات التي وصلتنا كلا، لم يبتدر الحرب، صحيح هو خرج غاضباً لأن رئيس إثيوبيا الذي أصبح الآن الحكم علينا في أبيي وله القوة العسكرية وصل معه الخرطوم ومعهما أفريقي آخر للقاء البشير والوصول لوفاق بعد أن رفض اتفاق أديس أبابا، ولكن فشلوا في ذلك، ولا أظن أنه خرج بعد ذلك يحسب المعركة. { ما هي قراءتك لموقف دول الجوار مما يحدث؟ - لعلها غضبت بعض الشيء. { القوس الملتهب من النيل الأزرق مروراً بجنوب كردفان إلى دارفور، هل سيفضي إلى جنوب جديد ونيفاشا(2)؟ - لعل البقيّة من أهل السودان لغضبهم والاتعاظ مما أفضت إليه (نيفاشا) ممكن هذه المرة أن يستدركوا الأمر أن لا ينتهي إلى (نيفاشا) أخرى، بل إلى تسوية مع تبديل النظام، لأن النظام عند توقيع نيفاشا كان محاصراً ومحكوماً من شمال الوادي، حتى لا يأتي نظام للمائدة ويوقع مكرها على مصيبة تقع بعد ذلك، والأمر يتوقف على السودانيين. { توقعاتك لما سيحدث.. هل ستدخل الحكومة في تفاوض أم يستمر الخيار العسكري؟ - أنا لا أعلم الغيب، ولكن نظام الحكم لا يعترف بالخسارات، ولكنها تبينت له وتعاظمت، ماذا تعني له خسارة الجنوب، حتى إذا لم تأته في رأسه أتته في جيبه، والسودانيون آفاقهم كانت محدودة ولا يدركون ماذا يعني انفصال الجنوب، والآن مستهم في رزقهم وأدركوا ذلك وبدأوا يحسون المخاطر، والأزمات في الجزيرة والنيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور والشمالية والشرق، وممكن إذا السودان تحرك بمناصحة ومضاغطة سلمية يتعظ ويهتدي مَن في السلطة، ونحن نعرف كثيرين لا يتعظون حتى تأتيهم الجائحة..!! وعلينا أن نبين للناس المخاطر والحلول لعل ذلك يعظ مَن في السلطة، وإذا لم يعظ من في السلطة يعظ الشارع، وإذا تحرك الشعب وأراد الحياة يستجيب القدر.