رغم أنها جريمة وقعت أحداثها بدولة تشاد حيث خطط للجريمة هناك ونفذت باحترافية إلا أنها ارتبطت بالسودان من واقع أن القتيل كان رجل أعمال سوداني له إسهاماته الاقتصادية والسياسية والدينية والاجتماعية، وضاعف من أهمية ذلك بأن أصدر وزير الداخلية آنذاك الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين، أمراً بتكوين فريق من المباحث الجنائية وإرساله إلى تشاد للتحقيق في جريمة اغتيال رجل الأعمال «ابن عمر إدريس التجاني»، الذي تمت تصفيته بأسلوب وسيناريو على شاكلة ما يحدث في أفلام الجريمة. من هو «ابن عمر»؟ يعرف الجميع (ابن عمر) فهو رجل أعمال ظهر على السطح فجأة في منتصف التسعينيات وأسس ما يقارب ال (5) شركات تجارية، وترأس مجلس إدارة بنك تنمية الصادرات. من مواليد 1947م بمنطقة «تلس» بولاية جنوب دارفور، تلقى تعليمه الأولى بمسقط رأسه حيث درس القرآن والعلوم الدينية على يد جده ووالده اللذين كانا من الشيوخ المعروفين في المنطقة، ثم سافر إلى تشاد والكاميرون حيث أكمل تعليمه هناك ومنها إلى نيجيريا التي مكث فيها عدة سنوات، درس في مدرسة ميدغوري تحت رعاية الشيخ أحمد الفتوح شيخ الطريقة التجانية بغرب وشرق أفريقيا، وقد ارتبط «ابن عمر» بشيخه أبو الفتوح ارتباطاً وثيقاً، ورغم أن الرجل من الشخصيات المهمة على المستوى السياسي والديني إلا أنه لم يبخل بزيارة السودان لأول مرة لأداء واجب العزاء في وفاة والد (ابن عمر) فكانت زيارة الشيخ أبو الفتوح شبه رسمية حيث استقبله بمطار الخرطوم السفراء والوزراء ورجال الأعمال، وتلك العلاقة يجسدها ابن عمر في لقاء صحفي عندما اختتم حديثه: (أللهم أشهد أنني ابن عمر إدريس أقسم بذاتك الإلهية وبشرفي وعزيمتي وعزتي بأنني تلميذ الشيخ القطب الرباني حبيبنا أحمد أبو الفتوح رضي الله عنه وأرضانا بمحبته ومحبة حبيبه سيد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله)، وجاء ذلك نتيجة الحب بين المعلم وتلميذه من خلال دراسة القرآن والفقه في خلاوى الشيخ أبو الفتوح ومنحه رتبة المقدم في الطريقة التجانية؛ وهي رتبة متقدمة لمريدي تلك الطريقة التي تنتشر بدول غرب أفريقيا. ابن عمر السياسي ارتبط ابن عمر بمنطقته «تلس» بولاية جنوب دارفور وسخر جل أمواله لخدمة أهله هناك فأنشأ معمار المدينة بالمحلية وأعاد بناء مباني المحلية ورئاسة الشرطة والأمن والمستشفى، بالإضافة إلى إسهاماته في إطلاق سراح الغارمين والمحبوسين في أحكام مالية، وقد افتتح تلك المنشآت فخامة رئيس الجمهورية فكان لتلك الإسهامات أن التف حوله أهله وانتخبوه بالتزكية في الانتخابات البرلمانية ولم يكن وقتها موجوداً بالبلاد فأصبح ممثل الدائرة (68) بتلس وبذا دخل المجال السياسي. شاعريته كانت دراسة القرآن والفقه قد أثرت في أدبياته فخلقت منه خطيباً فصيحاً، والكل يذكر الكلمات التي قالها في رثاء رجل الأعمال الحاج آدم يعقوب عندما وقف قائلاً: «مات الرجل المؤسسة.. رحل الرجل المؤسسة.. الشجرة التي نستظل بها من لهيب الصيف وزمهرير الشتاء، فترك في قلوبنا غصة وفي أعيننا دمعة.. مات أبو مهدي وبفقده انطوت أهم صفحات كتاب دارفور»، أما في شعره فيروى أن الشاعر فؤاد حمزة تبن من أميز شعراء كردفان ولم يكن قد التقى بابن عمر وإنما كان يسمع به فقط فأرسل إليه قصيدة عن طريق الفاكس قال فيها: روح أنت طيبة وقلب كبير** وعطا منك لله كثير لله درك من رجل ** مربي يكفيك الماء النمير لك من كل ناحية مآثر** ومناقب يعجز دونها التعبير ما رددت سائلاً يوماً ** ولا خاب من جاءك يستجير فما كان من ابن عمر إلا أن رد عليه بقصيدة أيضاً وأرسلها إليه قال فيها: سيد القوم لك مني سلام دمت ودامت بصفائها الأيام يا صاحب القلب المفعم بالرضى إن المحبة للعارفين وئام أهديك من سويداء قلبي أشواقاً وللأحبة مني التزام ابن عمر رجل الأعمال عرف ابن عمر بأنه من رجال الأعمال المعروفين وله صداقات حميمة مع رجال الأعمال بابكر ود الجبل وصديق ودعة وعبد الكريم ومعظمهم من أبناء دارفور، وقد امتدت تلك العلاقات لمشاركات بينهم في أعمال تجارية، ورغم أن ابن عمر قد عرف فجأة في منتصف التسعينيات إلا أن المعرفة به جاءت عندما أوقفته المباحث المركزية للتحقيق مع آخرين على ذمة أحد بلاغات الاحتيال التي دونها أمير قطري، وأخذت القضية جانباً سياسياً عندما سعت الدولة إلى تسوية القضية. وبحسب مصادر بالمباحث فإن ابن عمر كان إمام المحبوسين في حراسة التحقيق الجنائي الذي كان يتقلد رئاسته آنذاك العقيد عمر عبد العزيز، وكان صارماً مع جنوده ويمنعهم من التعامل مع المحبوسين في الحراسة خاصة ابن عمر، وقد تولى التحقيق في القضية العديد من الضباط أولهم المقدم النور مرحوم، وأبرز المقبوض عليهم كان (ود الرسالة) وآخرين، ولكن البلاغ وصل في خاتمته إلى تسوية فخرج من هناك رجل أعمال معروف. البترول التشادي كما ذكر كان لابن عمر مجموعة من الشركات منها شركة ابن عمر التجاني المحدودة للاستيراد والتصدير، وشركة أبو الفتوح التجاني للاستثمارات الدولية، وشركة مدينة الحاج إدريس الصناعية، وشركة القلب للتجارة والمقاولات العالمية، وكان له شركاء في تلك الشركات وعقد شراكة أخرى في شركة لاستخراج وتصدير البترول دخل بها العطاء لاستخراج البترول بدولة تشاد، ودولة تشاد كانت تعني لابن عمر الكثير حتى أنه كان يعتز بصداقة إدريس دبي له. وباشرت الشركة تنفيذ تلك العقودات خاصة وأن لديه شركة ابن عمر إدريس التجاني للنقل وتضم ناقلات لتصدير البترول وكان ذلك في بدايات العام 2002م، وبدأ في إحداث نهضة بدول تشاد وأعمال هناك جعلت حياته موزعة ما بين الخرطوم وإنجمينا، وقد يذكر الكثيرون افتتاح ضخ البترول التشادي على يد الرئيسين السوداني عمر البشير والتشادي إدريس دبي. ليلة اغتياله وصل ابن عمر إلى تشاد قبل يوم من مقتله وكالعادة كان ينتظره السائق المخصص لتحركاته داخل إنجمينا.. ابن عمر بجلبابه الأبيض النقي وعمامته التي تتدلى على كتفيه ومسبحته في يده كان يجلس إلى جوار السائق الذي أوصله إلى الفندق المخصص لإقامته، فأخذ قسطاً من الراحة ولأنه شخصية لها وزنها أتاه كبار الرجالات وشركاؤه في العمل جلسوا سوياً وناقشوا أموراً يختلفون فيها وفي الصباح خرج كعادته يتفقد مشاريعه الزراعية والاستثمارية ثم عرج على أحد المساجد وصلى فيه صلاة المغرب، ثم دعا لأحبائه ولنفسه ولشيخه أبو الفتوح الذي كانت سيرته لا تفارقه على الإطلاق، وعلى باب المسجد توكأ على عصاته لينتعل حذائه وخلفه كان السائق ثم فتح باب السيارة ودلف إلى داخلها ليأمر السائق بأن يوصله للطريق فتحرك السائق في طرق متعرجة متجهاً إلى مكان إقامة ابن عمر الذي رن هاتفه فجأة فأخذ يكلم محدثه الذي كان من المقربين له وأبعده عن وظيفته بعد أن وجد أخطاء في إدارته للشركات، فكانت مكالمة طويلة لم يلاحظ خلالها المرحوم أن هناك دراجة بخارية يمتطيها شابان تتعقبه ويحاول سائق الدراجة التخفي خلف العربة حتى وجد فرصته فحاول تجاوزها باليمين وعندما وصل سائق الدراجة البخارية جوار مقعد ابن عمر رفع الجالس خلف قائد الدراجة جسمه إلى أعلى ليظهر بأنه يحمل مسدساً سريع الطلقات صوبه ناحية ابن عمر في اللحظة التي انحنى فيها سائق السيارة لتخترق الرصاصات رأس المجني عليه وترديه قتيلاً في الحال، وواصل سائق الدراجة سيره كأن شيئاً لم يكن ليختفي عن الأنظار. فريق سوداني للتحري العميد معاش مجدي كمال الباقر، أحد الذين اختارتهم وزارة الداخلية للسفر إلى دولة تشاد ومباشرة التحريات هناك جلسنا معه ليروي لنا قصة الاغتيال وكيف أنهم وصلوا إلى الجناة وما حدث لهم. بدأ الباقر حديثه بأن جريمة (ابن عمر) كانت تصفية حسابات في أعمال تجارية خاصة بالمجني عليه ولأنه شخصية لها وزنها أصدر وزير الداخلية قراراً بإلحاق محققين من المباحث مع الشرطة التشادية، فكان أن تم اختياري تحت امرة العميد آنذاك عبد الرحيم أحمد عبد الرحيم كبير المحققين بالمباحث الاتحادية، ومعنا ضابطين من المعامل الجنائية، وهناك ملاحظة لابد من توضيحها بأن الشرطة في تشاد تعمل وفق الإجراءات الفرنسية ونحن في السودان بالإجرادات الإنجليزية وهناك اختلاف بين تلك الإجراءات ولكن القضاء التشادي اعتمد التحريات التي قمنا بها وعرف لأول مرة بينة «الاعتراف القضائي» للمتهمين. كان الاختيار سريعاً والسفر أسرع، ما هي إلا ساعات حتى وجدنا أنفسنا في إنجمينا واستقبلنا السفير والملحق العسكري وبدوره قدمنا للشرطة التشادية فكان أول ما قمنا به زيارة مكان الحادث الذي أرشد عليه السائق وكانت الملاحظة بأنه طريق هادئ لا تسير فيه مركبات كثيرة ولا تجاوره مساكن وأن الحادث وقع في منعطف بذلك الشارع يجعل ارتكاب الجريمة والهروب سهلاً، ومن خلال أقوال السائق عرفنا بأن الجريمة نفذها شابان يركبان دراجة بخارية وأنهما تخطيا السيارة باليمين وهذا مخالف لقانون السير رغم أن الطريق على اليسار واسع وكان بالإمكان المرور عليه ثم جاءنا التساؤل بأن الطلقات التي أطلقت في ذلك المكان كانت ستصيب السائق أيضاً وأن نجاته كانت مثار شكوك، كل ذلك جعلنا نشتبه في تورط السائق في تلك القضية فكان الخيط الأول لكشف بقية تفاصيل الجريمة التي تمت بترتيبات وخطة ماكرة.