اندهشت الطبيبة المصرية العاملة ضمن "الكونسورتيوم" المعالج لزيدان إبراهيم - رحمه الله - عندما عرفت أنه عندليب السودان الأسمر، وستزداد دهشةً لوعلمت أنه سبق فناني بلادها في التغني لزميل مهنتها شاعر مصر العملاق الدكتور إبراهيم ناجي، بل ومن فصيح الغناء العربي أغنية (الوداع) التي تعد من عيون الشعر الغنائي العربي المعاصر في جانبه الفصيح: "داوي ناري والتياعي وتمهل في وداعي يا حبيب الروح هب لي بضع لحظات سراع قف تأمل مغرب العمر وإخفاق الشعاع وابك جبار الليالي هدّه طول الصراع ما يهم الناس من نجم على وشك الزماع غاب من بعد طلوع وخبا بعد التماع آه لو تقضي الليالي بشتيت باجتماع كم تمنيت وكم من أمل مر الخداع وقفة أقرأ فيها لك أشعار الوداع ساعة أغفر فيها لك أجيال امتناعي يامناجاتي وسري وخيالي وابتداعي تبعث السلوى وتنهي الموت مهتوك القناع دمعة الحزن التي تسكبها فوق ذراعي" مقدرة زيدان على الإبحار في عالم الغناء الفصيح شهد له بها كوكبة من شعراء السودان، منهم رفيق دربه التيجاني حاج موسى، وعندما تستمع لزيدان وهو يغني بالفصيح تتمنى ألا يغادره إلى غيره، وعندما يغني بعاميتنا الفصيحة لا تملك إلا أن تنحني لهذا التطريب العالي، لذا فإن كان البعض ينتقي أغنية هنا وأغنيات هناك لأي من كبار فنانينا فإنك تجد نفسك مضطراً لسماع جميع غناء العندليب، خاصة عندما يعدل من وضع نظارته فتكون على موعد مع الغناء الراقي: "جميل ما سألناه ولكنا هويناه بديع في تثنيه وديع حين تلقاه عجيب في معانيه إذا أدركت معناه مليح الدل فتان ملاك قد عرفناه سكارى عند رؤيته حيارى عند ذكراه يعاتبنا بنظرته بلا ذنب جنيناه" (مهدي محمد سعيد) تستحق (الأهرام اليوم) الإشادة والتقدير على مبادرتها لعلاج الراحل عندليب السودان وتسبق بذلك المؤسسات الرسمية القائمة على أمر الإبداع في بلادي. وإذا استثنينا جهود الوزير المثقف ابن الدويم السموأل خلف الله القريش واتحاد الفنانين (حمد الريح وعبدالقادر سالم) ومجموعة من زملائه وردي، عبدالعزيز المبارك، جمال فرفور)، فإن هذا ليس غريباً على صديقي وزميل مهنتي الهندي عزالدين الشاعر الذي اختطفته مهنة المتاعب رغم ما بينهما من إلفة وتلاق. الحديث عن زيدان هو حديث عن الذكريات التي خلفتها أغانيه في ذاكرة جيلنا ووعيه بجميل النظم وحلو الأغاني وهو حديث عن الذكريات والمكان والأحبة.. كنا طلبة بمدرسة النيل الأبيض الثانوية بالدويم في أوائل الثمانينات وكان زيدان في أوج عطائه الفني وكانت أغنية (لو أحبك) أغنية الموسم وكان زميلنا فيصل إبراهيم من أبناء ودنمر بشمال الدويم شاباً طموحاً وفناناً موهوباً صعدت بنجوميته إلى القمة في كل الحفلات التي أقامتها المدرسة وكانت النيل الأبيض الثانوية مدرسة لا تضاهيها جامعات اليوم ثقافة وفكراً ورياضة، كان مدرس الرياضة أستاذ عصام من دفعتنا أحمد محمود الشايقي (محامي)، خليل غانم (بن صاحب مكتبة غانم الشهيرة بالدويم)، الجيلي عبدالعال (مذيع وأستاذ جامعي) وقبلنا صلاح مبارك الخليفة (أخطر مشجع كورة لعنبر الزراف) والعقيد الصوارمي خالد سعد الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة حالياً، صاحب الصوت العذب في التلاوة وإمام مسجدنا. في تلك السنة كانت الدويم تنوم وتصحو على أنغام زيدان: "لو أحبك عمري كلو برضو شاعر ما كفاني والمحبة البين ضلوعي خالدة برويها بحناني بين شفايفك ابتسامة زي قمر ضوي في حياتي وكل بسمة بتثير شجوني وما في زول يرحم شكاتي لما تحكي الشوق عيني أو تعاتبك أغنياتي بكلمة حلوة من لساني فيها أجمل ذكرياتي" وأغنيات زيدان هي سفر المحبين وإلياذة عشقهم وسلوى بقايا ذكرياتهم الجريحة وحبهم الذي لم يكتمل: "لو كان التمني بينفع كل حبيب ما كان السعادة بقت قسمة ونصيب ولا قلوبنا الحيارى مع الأيام تشيب ولا عاش قلبي تايه في حبك غريب لا تسأل مشاعرك ليه عيني بكن يوم ودعني حسنك ولازمني الشجن باكر يا حبيبي يعلمك الزمن ليه دنيا المحبة للأحباب وطن" هذه الأغنية كانت لكل المحبين الذين جمعهم الحب وفرقهم الزمان بلا لقيا ولا ميعاد، ويقيني أن جل أبناء بلادي يجمعون على حبهم للوطن وللهلال وللمريخ ولمحمد إبراهيم زيدان الذي كان ينال على الدوام جائزة الفنان الأكثر انضباطاً بلوائح اتحاد الفنانين والأكثر تسديداً لاشتراكاته فيه. ولئن كان ذلك زيدان فإن الشعب السوداني بأجمعه حزن لفراقه.. زيدان الذي أهدى لهذا الشعب كنوزاً من المحبة ودفقاً من عذب الغناء وأجمله.. وإننا إذ نعيد تلك الذكريات نترحم على فقيدنا العندليب الأسمر. صحفي سابق