وكل ينفق مما عنده للفضائىات، وفضائية بحجم تأثير الجزيرة تحتاج فقط لسطر مفيد من كل دولة، وربما هذه المرة أجد عذراً لقناة الجزيرة وهي تختار هذا السطر المفيد الباهظ من كل أسطر جمهورية السودان، والسطر الذي يتردد في شريط الجزيرة الإخباري لعدة أيام هو «اقتتال قبيلة المسيرية الذي راح ضحيته مائة مواطن»، ولا تستطيع في هذه الحالة أن تلحق الخبر بعبارة «من الجانبين»، إذ إن القاتل والمقتول من قبيلة المسيرية، وقد غابت هذه المرة عن مسرح الأحداث تراجيديا الحمرة والزرقة، الصراع هذه المرة خارج أطر اللون، صراع لا لون له، ولا أعرف من أين دخلت الفتنة هذه المرة، فالمسيرية القبيلة القوية المتماسكة التي ظلت «حزام أمان» وحائط صد باهظ في تداخلات أزمة أبيي، لدرجة أن المركز في أسوأ أيام تقلبات هذه الأزمة يذهب لينام ملء جفونه ولسان حاله يقول «لن نؤتى من تلك الجبهة ما زالت قبيلة المسيرية على وجه تلك الأرض»، وبدا كما لو أن تلك الجهات التي فشلت لعقود من المحاولات لاختراق جدر هذه القبيلة من الخارج، قد ذهبت هذه المرة لافتعال أزمة من داخل «بيت المسيرية الكبير»، لتصنع الفتنة في نهاية الأمر هذا السطر القيم الذي لا يشبه تاريخ المسيرية التي ظلت ترفد البلاد بالبطولات والأمجاد والتاريخ، فلا أزمة النيل الأزرق ولا أزمة الحركة الشعبية في الجبال أصبحت قادرة على تمويل أشرطة الجزيرة وأشراطها الإخبارية، لتصبح في المقابل قبيلة المسيرية بقدرة قادر هي المؤهلة لإنتاج سطر غال ثمنه مائة روح بريئة من جانبي الصراع، وطاحونة الصراع التي تدور في اللا شيء تطحن الأرواح، وأخبار السودان التي اكتست بلون الدم وكتبت بمداده لردح من الزمان، ها هي هذه المرة تكتب بدماء المسيرية، وما أغلى دماء المسيرية وما أرخصها في آن واحد، فدماء المسيرية الغالية تسكب لأسباب رخيصة، وهي تراجيديا يصلح لها عنوان «استرخاص دماء المسيرية الغالية»، والخبر في حد ذاته، إزهاق مائة روح، يشبهنا ويشبه تماماً سودان «النيل والشمس والحركات المسلحة»، لكن الذي لا يشبه المسيرية هو هذا الموت الرخيص، والذي لا يشبهنا هو أن تصدر المسيرية وتتصدر قائمة الأخبار بهكذا خبر ليكون جرحنا جراحين، غير أن جرح المسيرية أعمق. تمنيت لو أن جهة أخرى غير المسيرية هي التي صنعت هذا الخبر بالذات الذي ملأ شاشات الفضائىة بجثث الموتى ورائحة البارود ولون الدم، وإنها لعمري هي المعركة الخطأ في التوقيت الخطأ بالأجندة التي أكثر خطيئة، ولك في ليل المسيرية الطويل أن تتساءل، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، أن تتساءل.. أين حكماء هذه القبيلة، أين ذهبت حكمة الناظر بابو نمر، وأين عبدالرسول النور فاكهة هذه القبيلة التي لا تذبل، بل أين السلطات الحكومية وأين الإدارة الأهلية، أين الحكماء والأمراء والنظراء، أين الروح السوداناوية السمحة، وأين وأين.. إلخ. وهكذا يتفطّر قلمي ألماً فقط لأننا ندخر قبيلة المسيرية لرتق فتق تلك المضارب والمشارب، وهي يومئذ واحدة من ممسكات أوتاد الوطن الكبير، ولهذا وذاك نرفض بشدة أن تلتحق المسيرية بركب تلك «المواكب المسلحة» التي ظلت تهب السودان «الموت والدمار والتشريد والنزوح»، وأن جسارة هذه القبيلة وحكمتها وحكمائها تؤهلها إلى أن تتسامى فوق كبرياء الجرح وأن تعود لرشدها ومكانها الطبيعي والطليعي في التماسك والتدافع. هكذا يريدون للسودان أن يكون سلة غذاء الفضائيات بوجبات الموت والتشريد والاقتتال، في كل يوم يجتهدون في جر قبيلة باهرة لدائرة الصراع المجنون، ولكن للمسيرية وقبائل النيل والصحراء من الإرادة ما يؤهلها لقلب هذه الطاولة، لنعود (زي ما كنا أول) نصدّر المانجو والبرتقال «وتفاح أبوجبيهة» والشهداء والتأريخ والبطولات. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم،