إن المتابع لتطورات الحراك السياسي في بلادنا خلال العشرين عاماً الماضية، وبخاصة من خلال ما ظل يعتمل داخل كيانات الحزبين الكبيرين (الاتحادي والأمة) لا بد له من أن يلحظ ما كان يجري من انشطارات داخل المنظومتين العريقتين، وسبب تلك الانشطارات ليس هو بالضرورة ما أتى من جهود خارقة قامت بها الإنقاذ في زمان مضى خلال مسيرتها المتعثرة حين فارقت الالتزام بمعتقد ترسيخ مبادئ الديمقراطية داخل منظومات الأحزاب أولاً، ثم داخل النسيج الاجتماعي لأهل السودان لخلق حكومات تأتي نتاجاً للتداول السلمي للسلطة، بعد أن ثبت خطل ومخاطر توظيف فئة للسيطرة على مقاليد الأمور وفق تاكتيكات أيديولوجية تأتي من أهل اليسار تارة، ومن أهل الإسلام السياسي تارات أخر، فحدث ما حدث، ودفعت بلادنا الثمن، وهو ثمن باهظ التكاليف. وحين اشتدت الضغوط الجماهيرية من الناشطين داخل وخارج الوطن بسبب تكاتف الأحزاب كلها للعمل في أهمية عودة الحريات السياسية كاملة وغير منقوصة، وعندما التحمت تلك الجهود الحزبية المعارضة مع أشواق المبعدين من الخدمة العامة في القطاعين المدني والعسكري، كان لا بد من أهل الإنقاذ ومفكريها من اللجوء إلى الخيار الصعب، ذي النتائج الأكثر خطورة، وهو خيار اختراق الحزبين العريضين صاحبي الغلبة الجماهيرية وفق آخر انتخابات مفتوحة وشفافة جرت في أبريل 1986م حيث حققا نسبة نجاح تتعدى الثمانين بالمائة من مقاعد البرلمان وقتذاك، وبالتالي حدث نوع من التفكيك في الحزبين الكبيرين بدخول مجموعة الشريف زين العابدين الهندي في السلطة، ثم تبعته بسنوات قليلة مجموعة مبارك الفاضل، والتي انشطرت هي الأخرى إلى أربعة أحزاب أمة، ثم تشتت الاتحادي إلى أربعة فصائل هو الآخر. وعندما تم منع الأحزاب من العمل المفتوح داخل الوطن، لجأت أعداد غفيرة من جماهير تلك الأحزاب للاحتماء بالقبيلة، فتسلحت قبائل دارفور، وتبعتها قبائل البجة في جبهة الشرق، وأصبحت الإنقاذ تواجه صعوبة توفير الحلول من خلال المباحثات المضنية، إلى أن تم إهدار جزء عزيز من موارد النفط في إنجاز تلك الموافقات بينها والجبهات ثم بينها والرموز السياسية الفاعلة داخل أحزابها بغرض تحييدها، للدرجة التي حدث فيها أن انضمت قيادات ذات ثقل نوعي وناشط لحزب الإنقاذ دون الاكتراث للمكون الأيديولجي للسلطة التي تتكئ على مبادئ الإسلام السياسي الذي بات يطغى على المنطقة العربية خلال الستين عاماً الماضية، فوصل الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في ثلاث دول عن طريق الانتخابات المفتوحة الآن، لكنه أخفق في الوصول للسلطة بالسودان عبر الانتخابات في التجارب الديمقراطية السابقة، فكان الاستعجال من مرجعية الإسلام السياسي بالسودان بالانقضاض على التجربة كلها في 30/6/1989م والآن.. وبعد أن حدثت حركة شد ونقاشات ساخنة داخل الهيئة القيادية للحزب الاتحادي الأصل، أدت إلى بروز توترات، بل وإلى انفعالات في أوساط بعض الشباب وبعض طلاب الجامعات من روابط الاتحادي الأصل بتلك المؤسسات أو في الأحياء المختلفة، بل هددت بعض القيادات الفاعلة والناشطة بتقديم استقالاتها من مسؤولية المؤسسات القيادية بالحزب، مع إبقائها على شعرة معاوية التي تتمثل في عدم ترك حزبها نهائياً.. كل هذا وذاك يخدم غرض الأحزاب الأخرى الموجودة بالساحة السياسية السودانية حينما يأتي ميقات الانتخابات البرلمانية القادمة، فيدخلها الحزب مجزءاً أكثر فأكثر، وبلا استعدادات، ما يؤدي إلى انحسار قوة حزب عريق ظل يعتبر كحصان طروادة في كل الانتخابات النيابية السابقة التي كان يكتسحها وبكل سهولة، ما يؤكد على أن المزاج السوداني يعتمد على حزب الوسط العريض وهو الاتحادي الديمقراطي. وهنا.. على جماهير الاتحادي الشرفاء، وعلى شبابه وطلابه المتوثبين إلى صنع مستقبل زاهر لهم ولبلادنا كلها، ألا يدخل اليأس إلى قلوبهم وعقولهم، وأن يحنوا رؤوسهم حتى تمر عاصفة الاشتراك في السلطة والتي لن تفيد الحزب، وبالطبع لن تحدث له أضرار مطلقاً، وسوف تمر الأيام تباعاً وسريعاً لتأتي الانتخابات القادمة التي تتطلب تكاتفاً باهراً من جماهير الحزب، حتى لا تتحقق خطط الآخرين التي ترمي إلى إحداث تراكم إحباط وسط جماهير الاتحادي الأصل تؤدي إلى وقوف تلك الجماهير الصابرة والصامدة على الرصيف الذي تقف على جانبيه العديد من الجماهير الاتحادية. فالحزب الاتحادي الأصل هو حزب أهل السودان وصمام الأمان لمستقبل أكثر اخضراراً، والزمن القادم يستوجب على شباب الحزب وطلابه تفويت فرصة التمزق بأياديهم، لأن الحزب هو حزبهم، رضي الناس أم أبوا. كما أن حركة الشد الحالية ستشغل جماهير الاتحادي الأصل عن عملية رص الصفوف وإعادة البناء القاعدي استعداداً للزمن القادم، حتى لا نندم ذات يوم ونبحث عن حزب كان وسيظل هو سيد الساحة السياسية السودانية وفارسها الأكثر لمعاناً. ألا هل بلغت اللهم فأشهد.